تفسير قوله تعالى: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه)
قال جل وعز: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ [القصص: ٥٥].
يشهد الله سبحانه لمن آمن من أهل الكتاب بنبيه وبالكتاب المنزل عليه، ثم آمن بخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وبالكتاب المنزل عليه، وأخبر أن له أجرين ومقامين، وأثنى عليه الله بأنه مع إيمانه ينفق مما رزقه فيؤدي الزكوات الواجبة وزكوات التطوع، ويؤدي النفقات الملزمة، والنفقات السنة.
ثم يقول الله جل جلاله عنهم كذلك: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) واللغو: الباطل، وما ليس بحق، وهو السفه والكلام الذي لا يقوله مؤمن مهذب صالح.
سبب نزول هذه الآيات التي جاءت في نسق واحد: أن النبي عليه الصلاة والسلام جاءه إلى مكة المكرمة وفد من عند النجاشي الذي آمن بنبي الله وبدينه وبالكتاب المنزل عليه، ويقول له: لولا عملي في دولتي لجئت فغسلت رجليك ولأقمت بين قدميك، ودخل وفد النجاشي مكة، ووجد النبي عليه الصلاة والسلام في المسجد الحرام، وفي المسجد جماعة من الكفار كـ عبد الله بن أمية بن المغيرة وأبي جهل بن هشام وآخرين.
فجاءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وسألوه عن هذا الدين الجديد وعن فرائضه وسننه وعما يدعو إليه، فدعاهم لعبادة الله الواحد، ودعاهم لبقية الفرائض والأحكام وأن يكونوا عند طاعة الله في كتابه، وطاعة النبي عليه الصلاة والسلام، فدمعت أعينهم وقبلوا ذلك، وأعلنوا إيمانهم، وقالوا: لقد كنا من قبل مسلمين، إذ وجدنا صفتك ونعتك في الإنجيل، وحيث قال الله عنهم: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصف: ٦].
فكانوا قد آمنوا بما في الإنجيل وبما فيه من ذكر أحمد والتبشير به، وأنه سيكون آخر الأنبياء والرسل، فما كانوا يحتاجون إن أدركوا عصره إلا أن يعرفوا عينه ويسمعوا رسالته، فيؤكدوا إيمانهم به، وكما آمنوا به عندما بشر به عيسى في الإنجيل آمنوا به كفاحاً ووجاهاً، وأصبحوا مجددين للدين الحق الخالد دين الإسلام، وإذا بـ أبي جهل يقوم إليهم ويقول لهم: يا خيبة لكم من وفد جئتم رواداً لقومكم، سائلين عن هذا النبي وعما يقول، وإذا بكم تركتم دين آبائكم وصدقتموه لأول مرة، فيا قبح ما جئتم به! فقالوا له: ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ [القصص: ٥٥] أي: لا نسافهكم ولا نشاتمكم، نحن أعلم بمصالحنا وأعلم بما يجب علينا، ولن نكون سفهاء مثلكم، فأثنى الله عليهم لهذا، وقال عنهم: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ [القصص: ٥٥] أي: لم يجيبوا عنه، ولم يكونوا سفهاء كأولئك الذين تسفهوا وجهلوا، وقالوا الباطل ظلماً وعدواناً تنفيراً عن الإسلام والإيمان وتنفيراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ [القصص: ٥٥].
أي: لا تسألون عنا ولا نسأل عنكم، لكم دينكم ولنا ديننا، أعمالنا نحن أعلم بما نفعل منها وما ندع وأعلم بما ينفعنا، وأنتم أعلم بدينكم وشرككم ووثنيتكم.
ثم قالوا: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [القصص: ٥٥] أي: ليس سلام تحية، ولكن سلام ترك وهجران وبعد، وقالوا لهم في ذلك: لكم منا السلام والأمان، لن نشتمكم ولن نطاردكم، ولن نكون سفهاء مثلكم، فقد هذبنا الدين وعلمنا الإسلام، وكنا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، إذ رأينا العلامات التي ذكرها الإنجيل والتوراة وذكرها الأنبياء السابقون فصدقناه وآمنا به، ونحن بذلك مغتبطون، ولله حامدون وشاكرون.
قوله: ﴿لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ [القصص: ٥٥] أي: لا نريد الجهلة السفهاء، الذين يأبون إلا شتم الناس وسبابهم، فإن كنا ضيوفاً في بلدكم في بيت الله الحرام، وأبيتم إلا الشتم والسباب فلن نشتمكم ولن نخرج عن آداب ديننا الذي دعا إليه محمد صلوات الله وسلامه عليه.
وهذه الإشادة من الله بهؤلاء معناها: أنه هكذا ينبغي للمسلم ألا يشاتم ولا يتسفه، وكان من صفة النبي عليه الصلاة والسلام في التوراة والإنجيل أنه ليس بسباب ولا صخاب في الأسواق، وهكذا فإن قريشاً تشتمه وتقول وتقول، وهو لا يجيبها، بل استمر في طريقه إلى أن نصره الله النصر العزيز المؤزر ففتح مكة، وطرد كفارها ومشركيها ونشر الإسلام في جميع جزيرة العرب، فمن أسلم فالخير له، ومن أبى إلا الكفران عرض للسبي وللقتل والطرد، وباء في الدنيا بالذل والهوان، ولعذاب الآخرة يوم القيامة أشد وأنكى.
وهذه الآية مثل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: ٧٢] يصف الله المؤمنين الصالحين الذين يأبون إلا الفضل والنطق بالصلاح والعمل للخير، ولا يريدون أن يكونوا سبابين شتامين.
فقوله تعالى: ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ [القصص: ٥٥] أي: ابتعدوا عنا، قد شتمتمونا فهنيئاً لكم ذلك وهنيئاً لنا ديننا وإيماننا بمحمد، واكفروا أنتم بما شئتم، فنحن قد آمنا في غبطة وسرور وحمد لله وشكر.


الصفحة التالية
Icon