تفسير قوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت)
﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [القصص: ٥٦].
ليست وظيفة النبي والرسول الهداية، إن الهداية بيد الله يهدي من يشاء، وإنما وظيفة الرسل البلاغ والدعوة وتلاوة القرآن عليهم ونشر الأحكام كما شرعها الله جل جلاله، فعليهم بيانها وتفسيرها بحاله ومقاله؛ بأن يفعل ذلك أولاً في نفسه وهو أول المسلمين وأول المرسلين، فهو أول ما أرسل أرسل لنفسه، فهو رسول للناس ولنفسه، فجميع ما أمر الناس به من فرائض ونوافل وأركان وأحكام كان هو المأمور بها أولاً، ثم بعد ذلك أمر بها الناس، ولذلك كان المصطفى عليه الصلاة والسلام رسول نفسه أولاً، ثم هو رسول الناس جميعاً.
قال الله له: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: ٥٦].
أي: ليست الهداية بحبك ولا بإرادتك، وليست بوظيفتك، وإنما على الرسل البلاغ، وأنت منهم يا محمد لم تطالب بالهداية، ولكنك طولبت بالبلاغ والبيان وإسماعهم القرآن حتى يعلموه ويدركوه.
وقد ذكر الله في هذه الآية المنطوق والمفهوم، فالمفهوم من الفقرة الأولى: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: ٥٦] أي: ليست الهداية لك، بل هي لله، ثم صرح بالمفهوم فأصبح منطوقاً، فقال: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص: ٥٦]، وهذا كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: ٢٧٢].
والإيمان هداية القلب، فمن أكرمه الله وأسعده وفتح قلبه لسماع الحق، ولدخول النور اهتدى، ومن أصم أذنيه وأعمى قلبه وأتبع ذلك بصيرته ضاع عن الإيمان والإسلام وعاش سبهللاً كافراً.
فقوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [القصص: ٥٦].
أي: الله أعلم بمن يهديهم ويصلحهم، فهذا يستحق الكفر لفجوره وفسوقه، لم يرد حتى الحوار ولا السؤال، ولم يفتح أذنيه لكلمة الحق، وهكذا كان حال من دعاهم في مكة وجزيرة العرب، وهكذا كان حال رسل رسول الله ﷺ عندما نشروا الإسلام خارج حدود الجزيرة، فعم الإسلام الكون مشارقه ومغاربه، ولم يطل ذلك أكثر من نصف قرن حتى كانت أعظم دولة في الأرض هي دولة الإسلام، فقد كانت شرقاً من بلاد السند، وغرباً إلى عمق أوروبا وأسبانيا والبرتغال وفرنسا وما بينهما شمالاً وجنوباً، ولم يتجاوز ذلك نصف قرن، فأصبحوا أئمة الناس ومعلميهم وحكامهم، والآمرين لهم والناهين، يقتلون من شاءوا بأمر الله، ويحيون من شاءوا بإذن الله، فنصر الله بهم الحق والإيمان، فالهداية لله وليست لأحد، والأنبياء خلفاؤهم هم الخلفاء الراشدون؛ وخلفاؤهم كذلك العلماء، فالعلماء ورثة الأنبياء، وما كان الخلفاء الراشدون إلا علماء بالله عارفين بكتابه وبنبيه وسنته.
قال تعالى: (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي: أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، وأعلم بمن لا يستحقها وليس أهلاً لها، ولذلك فإن الكفار الأول في مكة المكرمة سمعوا القرآن فاستنكروه؛ لأنهم لا يعرفونه لجهالة وضلالة سابقة، ولكنهم لم يعادوا نبي الله، ولم ينصبوا من أنفسهم أعداءً لله ولرسوله، فهؤلاء مع الأيام آمنوا وأسلموا، أما من كان عدواً لرسوله كـ أبي لهب وأبي جهل وأمثالهما من صناديد كفار مكة فهؤلاء آذوا وعتوا ونفروا عنه، فلم يختم الله لهم الحياة إلا بسوء الخاتمة، ولذلك يقول ابن تيمية عن كل من تعرض للإسلام ولمقام رسول الله ﷺ بقلة الأدب قولاً أو حالاً أو نفساً: لا يختم له إلا بشر، ولا يختم له إلا بسوء الخاتمة، وفسر بذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ [الحجر: ٩٥].
وحكى من ذلك قصصاً وروايات وأحداثاً في أعظم كتبه على الإطلاق الذي طبع أكثر من مرة وهو كتابه (الصارم المسلول على شاتم الرسول) فقد قال: شاتم الرسول -أي: قليل الأدب مع الرسول بالقول أو بالإشارة أو بالتعريض- يقتل إجماعاً، ولو قال: أنا تائب، فـ أبو لهب وأبو جهل وهؤلاء الذين تصدوا بعداوتهم لله ولرسوله وللإسلام ختم الله لهم بسوء الخاتمة، وهكذا كل من يتعرض للإسلام ويتعرض لرسول الله ﷺ لا يختم له إلا بالشرك وسوء الخاتمة، ونعوذ بالله من الخذلان.