تفسير قوله تعالى: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً)
قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ [القصص: ٥٩] يقول الله كرماً منه وفضلاً وعدلاً: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا﴾ [القصص: ٥٩] وهذه كقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥].
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى﴾ [القصص: ٥٩] أي: أهلها وسكانها من الكفار؛ ما كان الله ليهلكهم وهم صالحون مؤمنون، حتى ولو كانوا ضالين كافرين لا يفعل ذلك ما لم يرسل في أمها -أي: في أم تلك القرى- رسولاً، فالله ذكر القرى وأمها، فأم القرى هي مكة المكرمة، فهي أم الدنيا منها كانت الدعوة للهداية، ومنها برز سيد الخلق، وفيها ترعرع ونشأ صلى الله عليه وسلم، وفيها دعا الناس للإيمان به وبرسالته، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ١٥٨] ولها أوجب على كل إنسان في الحياة أن يأتيها مرة في العمر حاجاً وطائفاً وساعياً وواقفاً في عرفات وبائتاً في منى ليلتين أو ثلاثة، ومن لم يفعل ذلك وقد قدر عليه وأُعطي الزاد والراحلة يقول النبي عليه الصلاة والسلام عنه: (إن شاء مات يهودياً أو مات نصرانياً) ويكون قد ترك ركناً من الأركان الخمسة، ويُستحب إن استطاع أن يُعيد الحج مرة عند كل خمس سنوات، للحديث الوارد في مسند الإمام أحمد.
قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى﴾ [القصص: ٥٩] أي: لم يكن ربك يا محمد! ليهلك أهل القرى والمدن والناس، وتُذكر دائماً المدن؛ لأن شأن سكان المدن هم الأشراف والكبار، وهم الذين يعلمون البدو والأعراب، وهم الذين يستطيعون تلقي الوحي والرسالة ليعلّموها بدورهم من هو أصغر منهم عقلاً وأقل منهم علماً وفهماً، وخاصة أولئك البدو والأعراب.
أما لو نزل الإسلام بين البدو والأعراب لما فهموا ولما أدركوا، وقلما يحصّلون، فهم يحتاجون إلى التعليم من كبرائهم وكبراء بلدتهم وكبراء الدنيا من المؤمنين، وهكذا فعل الله، ومن هنا سُميت أم القرى، فهي أم المدن ومعناه: عاصمة الدنيا، ولا شك أنها عاصمة الدنيا، إذ لا يتم إيمان مؤمن ما لم يأت إليها طائفاً ساعياً واقفاً نائماً في منى، فإن كان قادراً فقد أخل بركن من الأركان وأنذره النبي عليه الصلاة والسلام إن ترك ذلك وهو قادر عليه بأنه: إن شاء مات يهودياً أو نصرانياً، أي: ليس بمسلم.
فقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا﴾ [القصص: ٥٩] كقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥] ولذلك فإن العرب الذين لم يُرسل إليهم نبي لا يعذبون إلا من أدرك الرسالة المحمدية والدعوة النبوية، فأبى الإيمان وأبى إلا الجحود فهذا عصى عن علم وسابق تقدير؛ فهذا هو الذي يُعتبر كافراً ويُعذّب؛ لأن الله قد أرسل إليه؛ والعرب لم يُرسل إليهم أحد إلا نبينا عليه الصلاة والسلام والذين سبقوه بقرون وآلاف من السنين لم يُرسل إليهم ولم يبعث لهم ولم ينطق بلغتهم، فكان أنبياء بني إسرائيل لا يخاطبون بالإيمان إلا بني إسرائيل؛ وهكذا قل عن جميع الأمم والشعوب الذين أُرسلت إليهم رسل وأنبياء، قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٤].
قال تعالى: ﴿يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ [القصص: ٥٩] أي: يبلّغهم كتابه وأحكامه وآياته ودلائله وبراهينه، والمعجزات التي تُصدِّق ذلك الداعي بأنه نبي من الله.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ [القصص: ٥٩] وقد أكّد الله هذا المعنى في الآية مرتين: ما كنا لنهلك أهل قرية لم يُرسل إليهم، فنحن نُرسل إليهم ومع ذلك لا نُهلكهم إلا إذا كانوا ظالمين أي: مشركين كافرين، ومن سوى ذلك لا يُهلك؛ لأنه لم يُرسل إليه.
ولذلك في سؤال القبر يأتي منكر ونكير ويُلقى الميت في قبره فيسألانه: من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟ فإذا قال: لا أعلم يقال له: ألم يُرسل لك رسول؟ يقول: قد قالوا ذلك، إذاً: لم لا تؤمن به؟ فتكون حجة الله البالغة عليه، ويكون قد كفر عن علم وبلاغ فاستحق العذاب، فيُعذّب روحاً في قبره إلى أن يُعذّب بعد ذلك يوم القيامة جسداً وروحاً.
فقوله: ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ [القصص: ٥٩] أي: إلا وهم مشركون كافرون، والظلم إذا أُطلق لا يُطلق في القرآن إلا على الشرك.