تفسير قوله تعالى: (وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس)
قال تعالى: ﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [القصص: ٨٢].
(أصبح) يمعنى: صار، يقال: أصبح إذا صار وانتقل من حال إلى حال، وليس من الضروري أن يكون ذلك في وقت الصباح، يقال: أصبح فلان عالماً، فليس معناه عندما أصبح الصباح صار عالماً، فقد يكون ذلك في الصباح أو في المساء ويفهم ذلك من سياق الكلام، تقول: أصبح وأمسى بمعنى بمعنى: الصيرورة والتحول.
وإذا بهؤلاء الذين تمنوا مكانه، فقالوا: ﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ﴾ [القصص: ٧٩] عندما رأوا ذلك فزعوا ورعبوا وندموا على ما صدر عنهم، وحمدوا الله وشكروه أن لم يكونوا مكان قارون ليعذبوا ويعاقبوا عقاب قارون بسبب اغتراره بماله وكنوزه وجاهه.
وقوله: ﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ﴾ [القصص: ٨٢] كان هذا بالأمس الدابر، والأمس المبني على الكسر يعني به اليوم الذي قبل يومك.
ففي اليوم الماضي رأوه وهو على عزه وسلطانه قد خرج في زينته الكاملة، حتى تمنوا مكانه وأعلنوا ذلك، وإذا بهم بعد ذلك يرون قارون وقد خسف الله به الأرض بنفسه وزينته وقصره وكنوزه، فقالوا متعجبين لذلك: ﴿وَيْكَأَنَّ اللَّهَ﴾ [القصص: ٨٢].
وي: كلمة تعجب، والمعنى: نظن ونعلم أن الله هو الذي يرزق من يشاء بلا حساب ويضيق على من يشاء، يفعل ما يشاء كيف يشاء جل جلاله، فليس الرزق بسبب علم العالم ومعرفة العارف من التجار أو الحكام أو الزراع أو الصناع كما قال قارون وزعم: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾ [القصص: ٧٨].
فليس ذلك بعلمه ولا بقدرته، ولا بسلطانه، ولكن الله ابتلاه وفتنه واختبره، فلم يفز عند هذا الابتلاء، ولم ينجح بل رسب وخسر، فلم يشكر الله على هذه النعمة، ولم يصرفها في نعم الله، ولم يحسن للفقير واليتيم والأرملة، كما أحسن الله إليه، وإذا بالله الكريم الذي أنعم عليه وابتلاه، نزع ذلك عنه، وسلبه إياه، وقضى عليه وعلى ما يملك، وكأنه لم يكن، فعلم هؤلاء المتعجبين أن الله يغني من يشاء من عباده بلا حساب، ويقدر على من شاء من عباده، أي: يجعل رزقه بقدر وحساب، فهو المغني والمفقر، جل جلاله يفعل ما يشاء، له الأمر والخلق، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وقوله تعالى: ﴿لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا﴾ [القصص: ٨٢]، ندموا على التمني السابق، وعجبوا مرة أخرى، فقالوا: يا عجباً! لولا أن منّ الله علينا، وكان هذا المنّ والإفضال في أن الله لم يرزقهم ما رزق قارون، فندموا فيما كانوا قد تمنوه من زينة قارون وكنوزه، ثم حمدوا الله على أن أبقاهم فقراء، ولم يعطهم ما أعطى قارون، ولم يخسف بهم وبدورهم الأرض، ولم ينزع نعمته عليهم، من شباب وقوة وحواس، ومن إيمان بالله كذلك.
فهؤلاء إنما كانوا يريدون الحياة الدنيا، وهم ممن آمنوا بموسى من بني إسرائيل الذين نصرهم الله على فرعون، بعد أن عاشوا عبيداً أرقاء له ولقومه قروناً تتبعها قرون، فحمدوا الله على الفقر والمسكنة، ولم يجر بهم ما جرى لـ قارون من خسف الأرض به، وبداره وبكنوزه وبجاهه، وبكل ما أتى به وطغى، أن لو كان لهم ذلك بعد أن تمنوه على الله.
وقوله تعالى: ﴿لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا﴾ [القصص: ٨٢] جواب (لولا) لخسف بنا، أي: لو لم يبقهم الله فقراء، ولم يعطهم ما تمنوا عليه من ملك قارون وجاهه لخسف بهم الأرض كما خسف بـ قارون.
وقوله: ﴿وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [القصص: ٨٢]، وهذا مما يزيد التأكيد أن قارون لم يسلم ولم يؤمن بموسى، فلم يكن مؤمناً كما ادعت الروايات الإسرائيليات التي نقلت في أكثر التفاسير أنه كان مؤمناً، وكان إذا تلا التوراة يكون من جمال صوته ما يتأثر به كل سامع مؤمن بالتوراة إذ ذاك، ثم نافق بعد ذلك، وليس في آيات القرآن ما يدل عليه.
فالذين تمنوا مكانه بالأمس قالوا عنه كافر، وأيقنوا أن الكافر لا يفلح ولا ينجو ولا يفوز لا في الدنيا ولا في الآخرة، فكانت هذه الكنوز والأموال ابتلاء واختباراً له، فما تمتع بها، بل كانت سبب هلاكه ولعنته وعقابه في الدنيا، ومات مع الكافرين، ولعذاب الله أشد.
فالكافر لا يفلح إن عاش كافراً ومات على ذلك.
والله قص علينا هذه القصة للعظة وللاعتبار، لنأخذ منها الدروس والحكم حتى إذا رأينا في عصرنا قوارين، لا نأبه لهم ولا نحسدهم على ذلك، ولا نطمع في أموالهم، فنحن لا ندري هل هذه الأموال والكنوز ستكون عليهم وبالاً كما كانت على قارون الذي قص الله علينا، فإذا كان كذلك فما الفائدة من مال وكنوز لا تدوم، ويكون نهايتها الذل والغضب واللعنة والموت على سوء الخاتمة، نسأل الله السلامة والعافية.
والمسلم إذا دعا الله يدعوه من خيره وإفضاله ما يكون خيراً له في الدنيا والآخرة، لا فتنة وابتلاءً له في دينه، ولا ضرراً عليه، وصدق رسول الله القائل عليه الصلاة والسلام: (هلك المكثرون، -أي: هلك ذوو الأموال الكثيرة- إلا من قال: هكذا وهكذا، وهكذا)، أي: إلا من صرف الفاضل من أمواله، في كل جهة من جهات الخير، في الزكوات، والنفقات للسائلين وللمحاويج، لما يعود على الناس بالخير، وليحسن كما أحسن الله إليه.
والله تعالى لم يمنع عباده مما أخرج لهم من الطيبات من الرزق، ولم يمنعهم أن يتركوا نصيبهم من الدنيا، فإن كان حلالاً طيباً فليحسنوا كما أحسن الله إليهم، فهذه بعض العبر والحكم من هذه القصة، ولم يؤتَ بها للحكاية والرواية.
فقد أوتي بها ليعتبر بها المؤمن والكافر، فالمؤمن يزداد إيماناً ويعيش في حياته عابداً مطيعاً، والكافر تقام حجة الله عليه، وأنه قد ضربت له الأمثال، وذكرت له القصص ليتخذ منها العبر والحكم، لتكون الحجة لله بالغة يوم القيامة، ولا يجد لنفسه عذراً ولا جواباً عندما يسأل عما قدم.