تفسير قوله تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض)
قال تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: ٨٣].
(تلك الدار) الإشارة للتنويه والتهويل، أي: تلك الدار التي وصفها الله تعالى في كتابه المبين ووصفها نبيه عليه الصلاة والسلام فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ما لم تره عين ولا سمعت به أذن، ولا خطر من ذلك على قلب بشر.
وهي الجنة ذات الأرزاق والنعم الدائمة الخالدة السائدة بفضل الله ورحمته.
والدار الباقية لم يجعلها الله لمن كان في الدنيا ذا سلطان ولا حاكماً ولا غنياً ولا ذا أرزاق وكنوز، ولكن جعلها للأتقياء الصالحين الأبرار، كانوا ملوكاً أو خلفاء أو مساكين، أو محاويج، أو ذوي أنساب وأحساب، فتلك الدار جعلها الله تعالى لمن قال فيهم: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ﴾ [القصص: ٨٣] أي: لا يريدون التكبر على خلق الله، ولا الاستعلاء على عباد الله، ولا يتيهون بأحسابهم ولا بأنسابهم ولا بأمومتهم أو أبوتهم، ولا بأموالهم ولا بما ملكهم الله في هذه الدنيا، وإلا لكان ذلك ابتلاءً وفتنة، كما كانت كنوز قارون لـ قارون، فقد فتن بها وعذب في الدنيا، ولعذاب يوم القيامة أشد.
والدار الآخرة إنما جعلها الله للذين لا يستعلون على عباد الله، ولا يتكبرون على الإيمان والمؤمنين، إذا قيل لهم: قال الله، قال رسول الله، قالوا: السمع والطاعة، على الرأس وسواد العين، وإذا قيل: هذا مؤمن أخوك، قال: أخي وهو أكرم مني، ولا يعلم الأكرم يوم القيامة إلا الله، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: ١٣] ومن كان في ظاهره متقياً لله سواء في الصلاة وبقية العبادات ومع ذلك حتى لو لم يكن كذلك، فهو لا يدري كيف سيختم له؟ كثيراً ما يكون الخصوص من اللصوص، فقد يتوبون ويغفر الله لهم، ويصبحون في أعلى الدرجات والمقامات، ويكونون خياراً، وما المؤمنون الأُول من الصحابة الأوَل إلا ممن كانوا يعبدون الأوثان والأحجار في أيامهم الأولى، فلما شملتهم العناية الإلهية، والرحمة الربانية، عندما ظهر فيهم سيد البشر محمد ﷺ يدعوهم إلى الإيمان بالله وبه، وبما جاء به من عند الله، آمنوا واستسلموا فأذهب الله عنهم نخوة الجاهلية ومعصيتها، وصاروا سادات الدنيا وأئمتها، لم يسبقهم في الفضل والخير إلا الأنبياء، فهم أفضل الخلق بعد الأنبياء فكانوا من الخصوص بعدما كان مما لم يذكر، ولا حاجة لذكره بعد أن ذهب، والإسلام يجب ما قبله.
الدار الآخرة وجنتها ورضاها ورحمتها مقصورة على الذين لا يتكبرون، ومن ينازع الله في كبريائه أذله وحقره.
وقوله: ﴿لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا﴾ [القصص: ٨٣].
أي: لا يريدون الفساد في الأرض، وكلمة (فساد) تشمل كل أنواع الفساد من كبرياء وجبروت وعلو على البشر ومعصية لله وإعلانها، من ظلم للخلق وأخذ أموالهم بالباطل، ومن كل ما يطلق عليه إفساد، فمن كان كذلك لا حظ له في الآخرة، ولا في رحمة الله ولا في رضاه.
والعلو في الأرض والكبرياء هو الذي أفسد الكافر الأول، ما كان إبليس إلا مع الملائكة، وإن كان جنياً بينهم، فقد كان من العابدين العارفين، ثم ارتد وكفر، وكان ارتداده بسبب كبريائه وطغيانه، وتعاليه على آدم، عندما أمره الله بالسجود إليه أبى واستكبر، وكان من الكافرين كما وصفه الله جل جلاله، وعندما قيل له: لِمَ لم تسجد؟ ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: ١٢]، وجعل نفسه خيراً من آدم، مع أنه رأى وعلم وسمع أن آدم خصه الله بأن خلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وأسجد له جميع الملائكة، سجود احترام وتقدير، لا سجود عبادة، ومع ذلك تعالى إبليس، فكان بكبريائه على آدم كافراً مرتداً، وقلما يتكبر أحد على خلق الله، وعلى عباد الله المؤمنين فيفلح، وقد تنتهي أيامه بسوء الخاتمة والردة كما انتهت أيام قارون، وتتبعه اللعنة إلى يوم القيامة، كما تبعت قارون في كتاب الله وفي كل ما يذكر فيه عندما يذكر التاريخ الأول وقصص الأولين.
وقوله تعالى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: ٨٣]، ليست للأغنياء ولا للحكام، ولا للطغاة، ولا للجبابرة، ولكن للمتقين، والمتقي قد يكون حاكماً وقد يكون سلطاناً، وقد يكون خليفة، فالرابط هي التقوى وليس سواها، والتقوى أن تجعل بينك وبين ربك وقاية من غضبه ولعنته، ولا تكون هذه الوقاية إلا بطاعته وامتثال أمره، والخضوع لكتابه والامتثال لنبيه، وما جاء به من أمر ونهي، تمتثل أمره وتجتنب نهيه.