تفسير قوله تعالى: (ثم أتبع سبباً)
قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا﴾ [الكهف: ٨٩].
لا نزال مع ذي القرنين، إذ قطع مكانه الذي كان فيه إلى مغرب الشمس، وأعاد للدين قواعد، ولا شك أنه ترك حكاماً ومعلمين يعلمون الناس التوحيد، وينشرون الإسلام كما نشره، ووضع بينهم من يعدل بينهم، ويفصل خصوماتهم، ويحول دون ظلم البعض للبعض، ثم ترك المغرب وهو الآن في طريقه إلى المشرق، فقال تعالى: ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا﴾ أي: ثم أخذ طريقه مرة أخرى واتخذ الأسباب للسفر والتنقل في الأرض والضرب في أرجائها، وهكذا اتخذ الآلة والمراكب البرية والبحرية، وربما الجوية كما حكى علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة والتابعين: أنه سخر له السحاب؛ فقد سئل عنه علي فقال: ذاك عبد صالح ناصح لربه، فنصحه ربه وأكرمه، فسخر له السحاب وأعطى له الأسباب، ومكنه من كل ما يحتاجه حاكم على الأرض.
قوله: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ﴾ [الكهف: ٩٠] أي: أقصى بلاد الصين حيث لا يعرف بعدها عمار ولا سكنى ولا شعوب من البشر، وصل هناك فوجد عند مطلع الشمس قوماً لم يجعل لهم ربهم من دون الشمس ستراً، فأرضهم لا تقبل بناء وليس فيها شجر ولا نبات، إذ تطلع الشمس في الساعة التي تطلع فهم معرضون لها ولحرها وبلائها، لا كهوف، ولا مغارات، ولا شجر، ولا أرض تقبل البناء، إذ الأرض تهتز وتتنقل فما بنوه يسقط، والشجر لا ينبت، وإنما يعيشون على ما يصطادونه من حيوان البحر وغيره.
فقوله تعالى: ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا﴾ [الكهف: ٩٠] أي: لا ستر لهم دون الشمس، وهم معرضون لها عراة لا لباس يسترهم إذ لا غنم ولا صوف ولا وبر ولا زرع يأخذون منه قطناً، وإنما يعيشون على الماء وسمك البحر، فهؤلاء عندما يبدأ حر الشمس يدخلون المياه ويبقون فيها إلى أن تميل الشمس إلى الغروب، فيخرجون من الماء.
وقد قال البعض: إنهم يحفرون أخاديد فيجلسون فيها، ولكنها أيضاً لا تمسك قد تنهار عليهم يميناً وشمالاً، فيجدون أنفسهم قد حفروا لها مقابر، ولذلك أصح ما قالوه: أنهم يتبردون من حرها ومن سمومها بالماء.
قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ﴾ أي: مثلما في قوله تعالى: ﴿قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾ [الكهف: ٨٦] فكان نفس
ﷺ ﴿ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾ [الكهف: ٨٧ - ٨٨] فقوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ [الكهف: ٩١] أي: مثلما حدث مع قوم مغرب الشمس دعاهم إلى الله، وأحسن إلى المحسن، وأساء إلى المسيء، فقتل الكافر المعاند الظالم، وعذب المعارض، وأما من قبل الإيمان والتوحيد فإنه أحسن إليه ووجد منه كلمة طيبة وليناً ولطفاً وإحساناً، وهذا معنى قوله تعالى: (كذلك).
أي: كما صنعنا معه عندما وصل إلى مغرب الشمس كذلك، وصل إلى مطلع الشمس وخيرناه بأن يصنع معهم ما شاء إما أن يعذب وإما أن يتخذ فيهم حسناً، فكان جوابه: أن يحسن إلى المحسن ويعذب العاصي والمسيء.
قال تعالى: ﴿وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا﴾ [الكهف: ٩١] أي: نحن محيطون بعمله وبقوله فما من شاذة ولا فاذة إلا والله يعلمها، ولا يخفى عليه خافية جل جلاله، فكان بعين الله عمله وبعين الله تعذيبه للظالمين الكافرين، وبعين الله إحسانه إلى المحسنين المؤمنين المصلحين، والله قد أحاط به علماً وأحاط به خبراً جل جلاله، وهو المحيط بـ ذي القرنين وبغير ذي القرنين.
وسبب تسميته بـ ذي القرنين أنه كان له قرنان أو ما يشبه القرنين وهذا قول.
وقيل: لأنه بلغ قرن الشمس طلوعاً وبلغ قرن الشمس غروباً وهذا الأقرب.
وقال البعض: لأنه حكم فارس والروم ومعلوم أن فارس والروم لا تتعدى ولايتين من ولايات دولته وحكومته، فقد كان الإسلام قروناً وفارس والروم ولايتان من ولاياته، أما ذو القرنين فحكم العالم كله بما فيها أمريكا.