تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه)
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾ [العنكبوت: ١٤].
هنا يسلي الله جل جلاله نبيه محمداً ﷺ ويعزيه ويقول له: يا محمد! ما لقيت من قومك في مكة أنت وأتباعك من شطط ومن اعتداء وتكذيب فنوح قد سبقكم إلى هذا الصبر والبلاء، فقد بقي مدة ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعو قومه إلى الله وإلى عبادته، وبعد هذا العمر الطويل وهذه القرون الممتدة ما آمن معه إلا قليل.
قال بعض المفسرين: لم يؤمن معه إلا اثنا عشر شخصاً، وبالغ من بالغ فقال: آمن معه سبعون شخصاً، وقد قال الله عنه: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: ٤٠].
وأخبره بأنه لن يؤمن معه إلا من قد آمن، وعندما أخُبر من الله بذلك يئس، وعند ذلك دعا على قومه كما قال تعالى حاكياً عنه: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح: ٢٦ - ٢٧]، فاستجاب الله له وكان ما سيذكره الله.
وقصة نوح عليه السلام قد مضت في سورة هود مفصّلة بعض الشيء، وإنما أعيد ذكر نوح هنا للتسلية والعزاء لنبينا عليه الصلاة والسلام فيما لقي من قومه من تكذيب وصد، ومن إصرار على إخراجه من بلدته وهي عزيزة عليه، وما تركها -وهي أحب البلاد إليه- إلا مرغماً طاعة لله وثقة في وعده على أنه سيعود إليها فاتحاً مظفّراً منصوراً، وقد نزل عليه عليه الصلاة والسلام وهو مهاجر إلى ربه في الجحفة -رابغ- قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ [القصص: ٨٥]، أي: سيُعيدك إلى مكة عزيزاً مظفّراً منتصراً على أعدائك، وكذلك كان، ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾ [التوبة: ١١١].
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بُعث نوح لقومه وهو ابن خمسين ومائتي سنة، ثم عاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة) أي: أنه عاش ألفاً وأربعمائة وخمسين سنة.
وورد أن ملك الموت عندما جاءه لأخذ روحه قال: يا نوح! ويا أطول الأنبياء عمراً! يا مجاب الدعوة! -وكان قد دعا على قومه- كيف وجدت الدنيا؟ قال: كمن بنى بيتاً وجعل له بابين دخل من باب وخرج من الآخر، فكانت هذه السنون وهذه القرون عند الموت وكأنها لم تكن.
وقد مثّل النبي عليه الصلاة والسلام الدنيا كلها كمسافر آذاه حر الشمس فاستظل تحت ظل شجرة منتظراً الفيء ثم مضى، أي: إن الحياة كلها منذ الخلق الأول إلى يوم القيامة ليست عند نهايتها إلا كإنسان آذاه حر الشمس فاستظل تحت ظل شجرة حتى إذا زالت الشمس تابع طريقه، وكأن الدنيا لم تكن.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: ١٤].
فهؤلاء الذين عذّبوا وأتعبوا وكذّبوا نوحاً نبي الله طوال هذه القرون الطويلة أغرقهم الله بالطوفان، فقال للسماء: أمطري وقال للأرض: أخرجي، وهكذا.
وقد كُلّف نوح قبل ذلك بأن يبني سفينة ويصنعها، فصنعها وركب معه من آمن، وجاء الطوفان على الخلق كلهم رجالهم ونسائهم، صغارهم وكبارهم، إنسهم وجنّهم، طيرهم وحيوانهم، ولذلك حمل نوح معه من كل شيء زوجين من كل أنواع الدواب ومن كل أنواع الطير إلى أن عادت الحياة مرة أخرى عندما قال الله للأرض وللسماء: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي﴾ [هود: ٤٤].
وكانت النتيجة ذهاب العقاب وترك أثره عبرة للمعتبرين ما دامت الدنيا وما دام الإنسان على وجه الأرض.
قال تعالى: ﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: ١٤]، أي: أخذهم عذاب الله بطوفان الماء عليهم فماتوا غرقاً وهم ظالمون، وحل عليهم ظلمهم لأنفسهم، والظلم إذا أُطلق لا ينصرف إلا إلى الكفر، أي: وهم كافرون بالله وبنبي الله وبالحق الذي جاء من الله، فعوقبوا في الدنيا بالطوفان والغرق، ولعذاب الله يوم القيامة أشد وأنكى.


الصفحة التالية
Icon