تفسير قوله تعالى: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله)
قال: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ﴾ [العنكبوت: ٢٩]؟ فما كان جواب هؤلاء؟ ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ [العنكبوت: ٢٩]، لم يناقشوه، لم يحاسبوه، لم يجيبوه، وبماذا يجيبونه؟ لا منطق ولا عقل معهم، ولا بشرية معهم، إن هم إلا حيوانات، بل الحيوانات أكرم وأشرف، الحيوانات يكتفي الذكر بالأنثى، ولا يتصل الذكر بالذكر، ولا الأنثى بالأنثى، ولا يفعلون هذا.
فالحيوان الحقيقي: هو الإنسان عندما يكون مرتكباً هذه العظائم وهذه المناكر، ويبقى الحيوان أشرف منه وأكرم منه، كما قال تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الأعراف: ١٧٩].
قوله: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [العنكبوت: ٢٩]: طلبوا العذاب تكذيباً له وإصراراً، وثقة بأنفسهم أنه ليس رسولاً، وأن لا رب ولا آخرة، ولا حساب ولا عقاب، هكذا خرجوا للوجود عبثاً وسبهللاً، هكذا تحدثهم عقولهم الفاسدة، والفواحش هي التي طبعت قلوبهم فصعد عليها الران، فما عادوا يميزون بين صدق وكذب، بين ظلمة ونور.
وعندما تحدوا لوطاً أجابهم لوط: ﴿قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾ [العنكبوت: ٣٠]: طلب لوط من ربه أن ينصره على هؤلاء المفسدين في الأرض بالفحشاء، بقطع السبيل، بأنواع المنكرات، فما عادوا يعرفون رباً ولا نبياً ولا خلقاً ولا أدباً.
فأخذ الله يقص علينا كيف نصره، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ﴾ [العنكبوت: ٣١].
بينما إبراهيم في داره إذا بشباب طرقوا بابه فرحب بهم ودخلوا، فذهب سريعاً وجاء بعجل سمين محنوذ ووضعه بين أيديهم، وإذا بهم لم يأكلوا فخاف منهم؛ لأن الملائكة لا تأكل، ولا تشرب.
﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى﴾ [العنكبوت: ٣١]، وما هي البشرى؟ كانت امرأته واقفة عند دخولهم فبشروا إبراهيم بنصر لوط على قومه المفسدين، وبشروا امرأته سارة بأنها ستلد فصكت وجهها كما تفعل النساء الآن: أيكون هذا وأنا امرأة عقيم كبيرة؟ وكانت قد تجاوزت المائة عام، قال زوجها: الله أكبر، فأكدوا لها أن هذه بشرى الله، وأن أمر الله لا بد منه.
ووضع إبراهيم الطعام فما أكلوا، فأنكر عملهم فكشفوا عن حقيقتهم، ﴿قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ﴾ [العنكبوت: ٣١]، وإبراهيم كان رحمة، وكان حريصاً على أن يهتدي قومه وقوم ابن أخيه لوط، فأراد أن ينذرهم قليلاً لعلهم يؤمنون، فما قبلوا ذلك، بل جاءوا بوعد الله، وبعقوبة الله، وبنقمة الله، فهي واقعة لا محالة، فعندما لم يقبلوا ذلك منه قال: ﴿إِنَّ فِيهَا لُوطًا﴾ [العنكبوت: ٣٢] أي: كيف ستأتون بالقرية وتهلكونها وفيها نبي الله ورسول الله لوط؟ قال: ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ﴾ [العنكبوت: ٣١]، سيأتون لقرية سدوم يهلكونها ويدمرونها، ويفعلون ما أمرهم ربهم فيها من سحق ومحق وزلازل من الأرض وصواعق من السماء، وجعل عاليها سافلها؛ لأنهم كانوا ظالمين، كانوا مشركين، كانوا فاسقين، كانوا مرتكبين للفواحش بكل أنواعها، فعندما حاول إبراهيم أن يثنيهم أو يدعهم وقتاً ما لعلهم يعودون إلى الله لم يقبلوا، عند ذلك قال إبراهيم لرسل الله: ﴿إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا﴾ [العنكبوت: ٣٢]، أي: نحن نعلم بأن فيها لوطاً، ﴿لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ [العنكبوت: ٣٢]، فقر عيناً، فلن يصل لوطاً العذاب، ولن يمس أهله كذلك باستثناء زوجته من بين أهله: ﴿كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ [العنكبوت: ٣٢]، التي غبرت وسبقت أن كانت كافرة مشركة.
وكانت تساعد قومها على الفواحش، وتتجسس على لوط ومن جاء عنده من الشباب، ومن جاء عنده من الرجال، وقد تجسست عندما أتى هؤلاء لوطاً، وبلغت قومها، وكان بينها وبينهم إشارة.
فقوله: ﴿إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ [العنكبوت: ٣٢]، أي: إلا امرأته لن ننجيها فيصيبها ما أصاب قومها لكفرها، ولخيانتها في دينها، ولتواطئها مع قومها في الفحشاء والمنكر.