تفسير قوله تعالى: (ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون)
قال تعالى: ﴿وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [العنكبوت: ٣٥].
أي: وتركنا من هذه الأرض -أرض لوط- آية وعلامة واضحة ظاهرة (لقوم يعقلون) الأمور، ويعون الأشياء ويفهمونها، وكانت تلك العلامة والبينة عندما أخذت الأرض من قعرها ومن جذورها، وجعل عاليها سافلها، ثم قذف بها في الأرض، وهذه علامة للعرب وهم ينتقلون بين مكة والشام، أصحاب رحلة الشتاء والصيف، فكانوا يمرون على أرض سدوم وإذا بالأرض تصبح بحيرة سوداء الماء منتنة، لا تنبت ولا يصلح فيها نبات، وأصبحت حجارة سوداء وذات مياه سوداء علامة بينة على هؤلاء الذين عوقبوا ورجموا من السماء، وقلبت بهم الأرض عاليها سافلها، وأصبحت أرضاً عقيمة لا تنبت، ولا تنفع، ولا يشرب ماؤها.
كان هذا بين جداً في صدر الإسلام، ولا يزال هذا إلى اليوم، فالقرية تقع في أرض الأردن وهي البحر الميت، وماؤه لا يصلح للنبات، ولا يشرب ولا يسقي شجراً ولا دواب، بل شربه فيه ضرر وأذى لمن شربه من إنسان وحيوان.
فكانت تلك آية بينة، وعلامة واضحة لقوم يعقلون الأمور، ويملكون الفهم والوعي.
وهذا جزاء كل من ارتكب مثل هذه الفاحشة، والعرب لم يكونوا وقت نزول القرآن والبعثة المحمدية يعلمون هذه الفاحشة، ولم يسمعوا بها قط، حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله لولا أن القرآن ذكر أن هناك أقواماً يأتون الرجال لما قبلت ذلك ولما صدقته، أيخالفون الشيء في طبيعته؟ أيكونون شواذ في خلقتهم؟ يدعون ما خلق الله لهم من أزواجهم، ويأتون هذه الفواحش والمنكرات.
وفي خلافة أبي بكر رضي الله عنه حدث هذا البلاء فرفعت إليه قضية، أن رجلاً أتى رجلاً كما يأتي الرجل زوجته، وإذا به يجمع الصحابة ويستشيرهم في عقوبة الفاعل والمفعول به، فقال قوم: نرميهم من أعلى جبل كما صنع الله تعالى بأهل لوط، عندما رفع أرضهم إلى السماء وجعل عاليها سافلها.
وقال بعضهم: بل نرجمهم بالحجارة كما يرجم المحصن أي: الذي تزوج رجلاً كان أو امرأة.
وقال بعضهم: نحرقهم بالنار؛ لأنهم رموا بحجارة من سجيل، وهي من جهنم فحرقتهم، فاختار أبو بكر رضي الله عنه من هذه المقترحات أن يكشفهم عراة إلا ما يستر العورتين ووضعهم في أعلى الجبل، ثم رماهم من أعلاه إلى أن وصلوا إلى أسفله ممزقين أشلاء وقطعاً.
كان هذا حكم أبي بكر رضي الله عنه لمن صنع هذا الفعل، واختلف الفقهاء في ذلك فقال البعض: يرجم الفاعل والمفعول محصناً كان أو غير محصن.
وقال البعض الآخر: يفتلان معاً.
وقال البعض: بحرقهما.
وقال البعض: يصنع بهما ما صنعه أبو بكر.
وأجمعوا جميعاً على أن فعل ذلك فحشاء ومنكر.
فعقاب الفاعل والمفعول به بما يراه الإمام ردعاً لأمثالهما وزجراً من عودة هذا بين الناس، وعقاباًَ لهما بأن يكونا في باطن الأرض، إذ وجودهما على ظهرها يكون سبباً لنشر هذه الفحشاء، ولعدوى الناس بها.
قال تعالى: ﴿وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [العنكبوت: ٣٥]، هكذا قال الله، وهذا صنيعه بهم، بسبب كفرهم وما كانوا يرتكبونه من المنكرات من كل لون ونوع في مجالسهم وفي ندواتهم.


الصفحة التالية
Icon