تفسير قوله تعالى: (وعاداً وثمود وقد تبين لكم)
قال تعالى: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ [العنكبوت: ٣٨].
أي: وعاد وثمود أرسل إليهم رسلاً مبلغين، مبشرين ومنذرين، كما أرسل نوحاً وإبراهيم وشعيباً ولوطاً إلى أقوامهم، أرسل إلى قبائل عاد هوداً، وإلى قبائل ثمود صالحاً، وكانت قبائل عاد في الأحقاف قريباً من حضرموت في أرض اليمن، وكان قوم صالح بالحجر في المدائن، في أرض الحجاز، في الحدود بين الحجاز والشام.
وإذا بهم كذبوا وكفروا وقاموا على أنبيائهم بالصد والمعارضة والمقاومة، فقال الله عنهم: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٣٨].
أي: وعاداً وثمود قد تبين لكم أيها السامعون كيف كانت عاقبتهم، قد تبين للناس في عصر النبوة عندما ذهب ﷺ إلى غزوة تبوك ومروا على الحجر، فأخذوا ماءها فطبخوا وعجنوا به، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يأمرهم برمي ذلك العجين وعدم أكل الخبز، وبطرح ذلك الطعام وعدم أكله، وأن يخرجوا من هذه الديار التي غضب الله على أهلها، وألا يدخلوها إلا باكين أو متباكين، حتى لا يصيبهم ما أصابهم من لعنة وطرد من الرحمة، إذ كانوا كفرة بالله، متمردين على الله، وقد رزقهم عقولاً مستبصرة، وأجساماً قوية، فبنوا حضارات سبقوا بها الناس، فكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً، وكانوا عمالقة الأجسام أقوياء، وكانوا من أتقن الناس للصناعات وللبناء وللمزارع، وكانوا على غاية ما يكون من الشدة والبأس، ولكنهم لم يشكروا النعمة، ومن يكفر بالنعمة تزال عنه وتسلب منه، قال تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: ٧].
والله تعالى لفت أنظار الناس أن يروا آثار اللعنة والغضب عليهم، وما أصابهم من صيحات ورجفات بحيث أصبحوا كأنهم جذوع نخل خاوية، وقد ذهب بهم الهلاك كل مذهب، فلم يبق منهم أحد، فبعضهم كان في البيوت والغرف، وبعضهم في الأزقة، وبعضهم بين الشجر، وعندما جاء هذا العذاب والبلاء ذهبوا وهلك كل واحد منهم على ما كان عليه في نفس الوقت والحال، وتركوا آثارهم، تركوا الخراب في دورهم، وتركوا المياه متغيرة بالسواد، وتركوا شجرهم وقد احترق وذهب، وذلك في الأحقاف في أرض اليمن قرب حضرموت، وذاك بالحجر من أرض الحجاز قرب تبوك، في الحدود بين الحجاز والأردن من أرض الشام.
فالله يقول: يا هؤلاء الذين كفروا بمحمد ورسالة محمد تفكروا قليلاً، وانظروا ماذا حل بالأمم السابقة من قوم نوح وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وقوم شعيب، وقوم هود، وقوم صالح، وكانت نتائج كفرهم وعنادهم، أن عاقبهم الله وأهلكهم وأنهى ذكرهم ووجودهم، وكأنهم لم يعيشوا يوماً.
وقوله تعالى: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٣٨]، أي: تبين لكم آثار دورهم بعد خرابها ودمارها، وآثار ما بقي بعدهم، وما صنع الله بهم من لعنة وغضب.
وقوله تعالى: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ [العنكبوت: ٣٨] أي: فقد زين لهم الشيطان أعمالهم، فأخذوا يعتبرونها أعمالاً حسنة وصالحة ومجيدة ينبغي أن يجازوا عليها، وهذا من سخافة العقول، وظلمة الكفر، وضلال الدين، وهكذا صنع بهم، قلبوا الحقائق واعتبروا الهدى فساداً، والظلمة نوراً، إلى أن تربصت بهم الأيام والشيطان يغريهم، ويزين لهم أعمالهم، إلى أن هلكوا وكأنهم لم يعيشوا يوماً.
وقوله تعالى: ﴿فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ [العنكبوت: ٣٨].
أي: دفعهم، وأبعدهم عن الطريق الحق، وعن السبيل المستقيم، وعن طريق الهدى والتوحيد والإيمان بالله ورسالاته وكتبه.
وقوله تعالى: ﴿وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ [العنكبوت: ٣٨].
أي: كانوا قبل ذلك ذوي عقول مفكرة، ولكن ذلك في شئون الدنيا لا الآخرة، فكانوا يتمتعون بالقوة أبداناً، وعقولاً، وحرباً وقتالاً، بنوا الأبنية والقصور فوق الجبال وداخل الجبال، فنحتوا من الجبال صخوراً فبنوها قصوراً، ونحتوا داخل الجبال بيوتاً، فأقاموا فيها، فهم في فصل الصيف يشعرون بالبرد، وهم في البرد في حرارة، وكأنها المكيفات في عصرنا هذا، ومع ذلك علموا من الدنيا ظواهرها وهم عن الآخرة غافلون، وبها كافرون، لم يفكروا يوماً من أين جئنا؟ وإلى أين نذهب؟ ومن الذي أتى بنا؟ لم يفكروا في الخالق، هل سيعيشون سبهللا؟ هل خرجوا للدنيا عبثا؟ فكانوا غافلين وضالين، إلى أن انتهت حياتهم ووجودهم، وإذا بهم قد أصبحوا عبرة ومثلاً للمعتبر.


الصفحة التالية
Icon