تفسير قوله تعالى: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم)
قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٩].
الجحود: نكران الحق بعد العلم به، وقد كان هكذا كفر اليهود والنصارى، بعد أن وجدوا صفته في التوراة والإنجيل كما ذكر القرآن.
والعرب علموا حياته، وقد عاش عمراً من حياته بينهم، وما كان يعرف بينهم إلا بالصادق الأمين، وفجأة أخذوا يشتمونه ويكذبونه، عتواً في الأرض وفسادا.
وقد آمنوا بصدقه واعترفوا به، ولكنهم جحدوا الحق، فكفروا به وبما أتى به، قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٩].
بل: للإضراب، بمعنى: بل علم محمد والرسالة المحمدية، والقرآن الكريم بما فيه: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [العنكبوت: ٤٩].
أي: آيات بينات ظاهرات واضحات: ﴿فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [العنكبوت: ٤٩].
فهذا القرآن وهذه الرسالة المحمدية هي بالنسبة للمسلمين أتباع محمد لا يحتاجون فيها إلى كتاب ولا ورق، بل هي في صدورهم، يحفظونها حفظاً عن ظهر قلب.
فهكذا كان العرب المسلمون، فقد عرفوا بأن القرآن الكريم يحفظه الكبار والصغار، وحتى مع فساد الزمن ونشر الكفر، وإذاعة النفاق لا يزال في جميع العوالم، ولا تخلو بقعة من أرض إلا وفيها مسلمون يحفظون القرآن الكريم، أو فيهم من يحفظ القران الكريم، هذا على ما أصيب به المسلمون من جهل وكفر ونفاق.
فتجدهم يحفظون كتاب الله في صدورهم.
وهناك من الآثار والأحاديث ما يزيد هذا بيانا، ففي الحديث النبوي: (أناجيل أمتي في صدورها).
الإنجيل الذي عرف عند النصارى أنه كتاب ربهم، هو بالنسبة للمسلمين في صدورهم، يحفظونه غيباً ويتلونه صباحاً ومساء، يحفظون لفظه، ويحفظون معناه، وشرحه وبيانه.
يحفظون شرحه عن رسول الله ﷺ من سنته، ويحفظون شرحه وتفسيره من الآيات التي يفسر بعضها بعضا.
ويحفظون تفسيره من لغة العرب التي نزل بها القرآن الكريم.
يعلمون أفعاله ومصادره، أسماءه وحروفه، فيستنبطون المعنى حلالاً وحراماً، قصصاً وعقائد وآداباً ورقائق، ولا يعرف هذا في غير الأمة المحمدية، وفي العرب بصفة خاصة قبل غيرهم، فلقد كان سلفنا الصالح يحفظون كتاب الله عن ظهر قلب، ويحفظون مع كتاب الله مئات الآلاف من الأحاديث النبوية.
كان مالك بن أنس يحفظ السنة النبوية، وكان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث، وكان الشافعي يحفظ مئات الآلاف من الأحاديث.
كان أبو حنيفة على طعن أعدائه في حفظه للسنة يحفظ الآلاف من الأحاديث، وعليها بنى فقهه واستنباطه واجتهاده، لا كما زعم ابن خلدون الدخيل في دينه وإسلامه بأن أبا حنيفة لم يكن يحفظ من السنة إلا سبعة عشر حديثاً.
قال: وعليها بنى فقه وحديثه وإسلامه، وبذلك زعم وأفسح المجال لمن جاء بعده بأن قالوا: فقه الأحناف كله الرأي، وليس معتمداً على السنة، والإمام أبو حنيفة لم يكن يعرف السنة، وفقهه اجتهادات واستنباطات لا ترجع لدليل من السنة قط، فجاء الكفرة والمنافقون في عصرنا فقالوا: فقه أبي حنيفة فقه الرومان، وهو فقه حمورابي، وخرجوا به عن الدائرة الإسلامية الفقهية جميعها، فكذبوا على الله وافتروا! الزيلعي الإمام الحجة العلم المرجع، وهو حنفي المذهب، بل إمام من أئمة الحنفية، خرج فقه الأحناف في عصره، وإذا به يأتي بعشرات الآلاف من الأدلة مما استدل بها أبو حنيفة وأصحابه، وذلك في كتابه المسمى بنصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، وهو في أربعة مجلدات، مطبوع أجمل الطبعات، حرفاً وورقاً، والمحقق له أحد أصدقائنا من علماء الحديث في باكستان: محمد يوسف البنوري الذي توفي حديثا، رحمه الله وجزاه عن مذهبه وعن المسلمين خيرا.
وقبله الإمام الطحاوي، فقد جاء إلى كتابه شرح معاني الآثار، وإلى غيره، فخرج واستنبط وشرح وفسر من فقه الأحناف ما استدل به الإمام في عشرات الآلاف من الأحاديث.
ومما أكرمت به منذ ثماني عشرة سنة وأنا في جامعة دمشق أن خرجت أحاديث الأحناف في كتاب التحفة السمرقندية: تحفة الفقهاء للسمرقندي، فطبعت في أربعة مجلدات، طبعتها جامعة دمشق، وعلى ذلك فالأئمة الأربعة يحفظون كتاب الله عن ظهر قلب، ويحفظون السنة النبوية، وكان كذلك السلف الصالح منذ عصر الصحابة والتابعين.
فـ أبو هريرة راوية الصحابة كان يحفظ سبعة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثا، وهو أروى الصحابة على الإطلاق.
لا تجد كتاباً في السنة من الصحاح إلى السنن إلى المعاجم إلى المصنفات إلا وتروي عن أبي هريرة.
واعترف له الكبار من الصحابة بأنه لزم رسول الله، وجالس رسول الله، وتعلم من رسول الله، وما اشتغل بتجارة ولا زراعة، فكان ليله ونهاره مع رسول الله ﷺ يكتب كل ما سمع، بل ويحفظه عن ظهر قلب، وكانت الكتابة طارئة.
وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يحفظ عن رسول الله كذلك كل ما يسمعه، فكتب ما سماه الصادق، وهو أول كتاب دون في الإسلام، في حياة النبي عليه الصلاة السلام.
وكان مشتملاً على ألفي حديث، ولا نجد كتاباً بهذا الاسم، ولكنها أحاديث وزعت ورويت في الصحيحين: البخاري ومسلم، وبقية الكتب الستة، وجميع أمهات السنة، لم يضع منها حديث واحد.
بل أكثر من هذا أن أدباء العرب ورواة العرب يحفظون من الشعر، ومن اللغة ما يتجاوز عشرات الآلاف من القصائد والمقطعات، والأراجيز والأبيات.
جاء مرة بدوي إلى عبد الملك بن مروان، فدخل عليه، فوجده في هيئة زريئة كالأعراب خاصة إذا كانوا مدقعين فقراء، فقال: من أنت؟ قال أنا راوية العرب، قال: أنت راوية العرب؟ قال: نعم أنا روايتهم، قال: ما تحفظ؟ قال: ما الذي تريد، أشعر قريش أم شعر العرب؟ وإذا به يأمر بأن يحضر الأصمعي، وأن يحضر رواة العرب الكبار، وبأن يسمعوا منه.
فقال له: أريد أراجيز بني تميم خاصة، وهم أهل نجد آنذاك، فأخذوا يحصون عليه وإذا به يروي من حفظه، فهماً وإدراكاً وشرحاً للمفردات اللغوية، وللتعابير اللغوية، ويعلم اسم شاعر كل قصيدة، وما هي حياته، وفي أي عصر كان، وكيف كان، ومتى مات، وفي أي بلدة مات، إلى أن سمعوا منه عشرات المئات بل الآلاف من أراجيز العرب وحدها.
هذه صفة أكرم الله بها العرب، ثم أكرم بها المسلمين كافة ممن درس العربية، ودرس الإسلام جيدا، قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [العنكبوت: ٤٩].
أي: هو آيات واضحات بينات في صدورهم يحفظونها، ويحفظون أحكامها، ويحفظون ألفاظها، ويحفظونها لمن يأتي بعدهم، وهكذا حفظ القرآن في الصدور جيلاً بعد جيل إلى عصرنا.
يحكون عن يهودي أراد أن يختبر صحة سماع الأجيال التوراة والإنجيل والقرآن، فجاء إلى عالم يهودي فأخبره، وحضر معه جماعة من أمثالة، قال: اقرأ علي من التوراة، فقرأ من التوراة نفسها، وأخذ يتلكأ ويزيد وينقص، والحاضرون لا يرد عليه منهم أحد، مما يدل على أنهم لم يحفظوا شيئاً من التوراة.
ثم اتصل بعالم نصراني، ومعه جماعة مثله، فقال: اقرأ علي من الإنجيل، فأخذ يقرأ متلكئاً والحاضرون لا يزيدون على قوله ولا ينقصون، مما يدل على أنهم لم يحفظوا شيئاً، ثم جاء إلى مسلم عامي بين مجموعة من الناس، فقال: اقرأ علي من المصحف، قال: لا حاجة للمصحف، فمصحفي صدري، وأخذ يقرأ وإذا أخطأ في كلمة إذا بالحاضرين جميعاً يردون عليه، وإذا باليهودي يقول: أشهد أن الإسلام حق، وأن القرآن حق، وأنه لم يستطع أحد على مر القرون أن يغير في القرآن كلمة واحدة، أما التوراة والإنجيل فقد غيرت في العصور الأولى في العصر الثالث بعد موسى وعيسى، حتى غيرت وبدلت في أصولها وجوهرها، بدلت من التوحيد إلى الشرك، من الأخلاق الفاضلة إلى الأخلاق الزائفة، من احترام الأنبياء وتقديرهم إلى شتمهم وسبهم.
فالتوراة والإنجيل قد غيرتا وبدلتا في الجوهر وفي الكم والكيف.
أما القرآن الكريم فنحن الآن في أواخر القرن الرابع عشر، وما زال يقرأ في التراويح في كل بقاع الأرض.
باللفظ الواحد وبالحركة وبالمدة، وكما كان يقرؤه رسول الله ﷺ في مكة المكرمة، وفي مسجده، وبما كان يتلوه ويقرؤه بعده خلفاؤه الراشدون، وأصحابه الأكرمون، والتابعون فمن جاء بعدهم إلى عصرنا.
تلك معجزة المعجزات الخالدة التالدة في الإسلام، وكل معجزة سواها فهي خاصة بزمن نزولها، وقد ماتت مع أصحابها، ولم تبق إلا كسيرة نبوية.
وأما المعجزة التي رأوها، ورأيناها، ويراها أسباطنا وأولادنا بعدنا وإلى يوم القيامة فهي القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [العنكبوت: ٤٩].
فهؤلاء لا يحتاجون إلى كتابة.
والكتابة ليست إلا لمن لا يحفظ، والقرآن محفوظ في الصدور، وحفظه في السطور وفي التفسير، وفي البيان، ولذلك حفظ القرآن لفظاً وبيانا لغة وحركات ووقفات، ولم يلغ منه شيء، ولم ينقص منه شيء، ولم يزد عليه شيء، ومن حاول أن يقرأ ما لا يقرأه الناس قام الناس في وجهه معترضين عليه سواء كانوا صغاراً أو كباراً؛ لأنه لا يمكن للقرآن أن يخطأ فيه أو أن يغير، وجل من لا يسهو، وليست كذلك الكتب الأخرى.
﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [العنكبوت: ٤٩].
أي في صدور العلماء.
والله هنا استشهد بالعلماء، ومن أجل ذلك قال عليه الصلاة والسلام: (العلماء ورثة الأنبياء).
النبي عليه


الصفحة التالية
Icon