تفسير قوله تعالى: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة)
قال تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ [العنكبوت: ٥٦].
نحن لم نهتم كثيراً بأسباب نزول الآيات؛ لأن سبب النزول قد مضى وقته، وعوقب من نزل من أجله، وتبقى الآية عامة شاملة لمن عاصر النبوءة، ومن جاء بعدها، وكما تقول قواعد المفسرين: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
أمر من أسلم من أهل مكة بالرحلة، وبالهجرة، وبترك دار الكفر ودار المعاصي، حيث يجدون حرية الدين، وحرية العمل به من غير نكير ولا تحجير ولا معارضة: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ [العنكبوت: ٥٦].
فكان المؤمنون في صبر في الأيام الأولى من النبوءة، قد لقوا عنتاً واضطهاد وظلماً من كفار قريش، مما تنهد له الجبال، ولا يكاد جسد يتحمل ذلك، فقد قتلوا من قتلوا، وأجاعوا من أجاعوا، وهجروا من هجروا لمدة من السنوات.
كانوا يأكلون من الأطعمة أشهاها وهم لا يجدون من يبيعهم أو يعطيهم، فعاشوا مدة ثلاث سنوات على أوراق الشجر، بما فيهم صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله، عند ذلك أمرهم الله تعالى بترك مكة.
فكل بلاد يصبح الكفر فيها متغلباً، بحيث لا يباح للمؤمن أن يعبد الله كما يريد، بحيث يعلن ذلك، صلاة وصياماً وزكاة وذكراً لله، وابتعاداً عن الأوثان والأصنام، فلابد من الهجرة منها: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ [العنكبوت: ٥٦].
قوله: (يا عبادي): يا هؤلاء الذين آمنوا بي وآمنوا بالرسالة التي أرسلت بها محمداً وآمنوا بالقرآن الذي أنزلته عليه.
ليس هناك ما يجبركم على المقام بديار الكفر، وديار المعاصي، فاتركوها واهجروها واخرجوا منها، وهو أمر إلهي.
﴿إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ [العنكبوت: ٥٦].
أي: أرض الله واسعة، وهي لخلق الله، يتبوأ منها المؤمن حيث وجد الحرية في عبادته، والتصرف كما يريد، عبادة لله وطاعة له، سواء في شئونه الدينية، أو شئونه الدنيوية.
فقد أخرج الإمام أحمد في المسند، عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن الرسول ﷺ يقول: (البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيث ما وجدت خيراً فأقم).
يقول النبي عليه الصلاة السلام: الأرض أرض الله خلقها للبشر كلهم، فكل من على وجه الأرض عبد لله، فأقم حيث وجدت خيراً، ووجدت راحتك لدينك ودنياك، فلا تلزم نفسك أرضاً تجد نفسك فيها ذليلاً مستعبداً مضطهداً، لا تستطيع أن تظهر دينك وعبادة ربك، كما أمرك الله تعالى.
فالأرض واسعة، ولله المشارق والمغارب، جبالاً وتهامة، براري وبحاراً، غابات ورمالاً، فحيث ما وجدت نفسك تمتلك حريتك في دينك ودنياك فاهجر البلد الذي تذل فيه وتضطهد فيه، والذي تمنع فيه من أن تظهر دينك، وحرية تصرفك في دينك ودنياك.
قوله: ﴿فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ [العنكبوت: ٥٦].
أي: لا تعبدوا غيري، وتقديم المعمول على العامل يفيد الحصر، أي: اعبدوا الله وحده، لا تشركوا به غيره، لا إنساً ولا ملكاً ولا جناً، لا حيواناً ولا جماداً، ولكن اعبدوا الله وحده، خالقكم ورازقكم، ومحييكم ومميتكم، فإذا اضطررتم في أرض لتغير الدين الحق فاهجروها واتركوا قومها، واذهبوا حيث وجدتم من أرض الله الواسعة حرية التصرف، وإعلان الدين كما أمركم الله به.
فلم يلزم الله أحداً بأرض دون غيرها، وكل من على وجه الأرض هم من أصول مختلفة حتى وإن لم تقلها ألسنتهم أو الأوراق التي يحملونها فسوف تقولها ألوانهم، وتقولها جباههم، وتقولها حركتهم وحواسهم: إن هذا من كذا، وهذا من كذا هذا من المشرق، وهذا من المغرب، والأرض أرض الله، والعباد عباد الله، فلم يلزم أحد بالمقام في أرض دون غيرها خاصة إذا كانت هذه الأرض تضطهدك في دينك ودنياك، وتمنعك من التصرف بما تراه مصلحة لك، وبما تعلن به الدين الذي أمرك الله به صلاة وصياماً وزكاة وما إلى ذلك.