تفسير قوله تعالى: (الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له)
قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [العنكبوت: ٦٢].
وعندما جرى الكلام على الفقر والغنى ظنوا الغنى في بلدهم وليس الأمر كذلك، وطنوا الفقر في بلد الغربة، وليس الأمر كذلك، فليس كل من بقي في أرضه أغنياء، فمنهم الغني، ومنهم المستور، ومنهم الفقير، وقل مثل ذلك عن الذين هاجروا، فمنهم الغني، ومنهم الفقير، ومنهم المعدم البتة.
فالغنى والفقر من الله، والله هو الذي يبسط الرزق، فيغني من شاء من عباده، ويعطيه من الأموال ما شاء كيف شاء، ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ [الأنبياء: ٢٣].
فأغنى من شاء بغير حساب، وأفقر من شاء بغير حساب، وجعل بعضهم وسطاً بين الغنى والفقر.
قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [العنكبوت: ٦٢].
أي: أن الله جل جلاله عليم بعباده، فهو أعلم بمن يصلحه الفقر، ويفسده الغنى، وبمن يصلحه الغنى ويفسده الفقر.
وفي الحديث: (إن لله عباداً لا يصلحهم إلا الفقر، ولو أغناهم لأفسدهم، وإن لله عباداً لا يصلحهم إلا الغنى، ولو أفقرهم لأفسدهم).
وكم من الخلق ممن عشنا معهم وعاشوا معنا كانوا فقراء، وكانوا على غاية من التقى والصلاح، وأداء الصلاة، وأداء القيم والأركان، حتى إذا اغتنوا وأخذوا السلطة والجاه تنكروا لله، ولعبادته، وتركوا الصلاة، وتركوا الصيام، وظلموا الخلق، واعتدوا على البشر، وتكبروا على عباد الله.
فقد كان الفقر أصلح لهم، ولكن الله ابتلاهم واختبرهم هل سيصبرون، وإذا بهم لم يصبروا.
وكم من فقراء عشنا معهم وكانت حياتهم على حال وسط، فإذا بالله الكريم يغنيهم، وأصبح لهم جاه وسلطان، فكثرت صلاتهم، وصيامهم، وصلاحهم، وتصدقوا في السر والعلن، وأصبحوا منفعة لعباد الله، فكان هذا وأمثاله ممن لا يصلحهم إلا الغنى، ولا يعلم هذا إلا الله خالقهم.
أما لم كان فلان غنياً وفلان فقيراً؟ فهذا سؤال غير وارد، ولا يسأله مؤمن، قال تعالى: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ [الأنبياء: ٢٣]، والبواطن والعواقب والنهايات لا يعلمها إلا الله، والعبرة بالخواتم، فهل سيختم لهذا الغني بخير؟ وهل سيختم لهذا الفقير بخير؟ فقد يفسد الغنى وقد يفسد الفقر؟ ولذلك يقول الله ويجدد القول: ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ﴾ [العنكبوت: ٦٢].
فالبعض يبسط له بالرزق، ويعطيه من الأموال ما لا يحصى كما أعطي قارون، وكم من قارون في عصرنا ولكن اسألهم: ماذا فعلتم بمال الله؟ هل أعطيتموه للفقراء؟ هل زكيتم؟ هل أديتم حق الله في مالكم؟ فستسمع
ﷺ لا، وقد يكذبون ويقولون: نعم، فإذا بحثت وجدتهم ضموا مع منع الزكاة ومنع حق الله الكذب على الله.
إن الزكاة لا تقل عن الصلاة، وقد كان أبو بكر رضي الله عنه، وابن مسعود رضي الله عنه، والجماهير من الصحابة يقولون: من لا يزكي فلا صلاة له، وأول حرب أهلية كانت بين المسلمين كانت على مانعي الزكاة وذلك عندما منعوا الزكاة، فوقف أبو بكر وقفة الأسد الهصور في إصرار وثبات، حتى لقد حاول عمر وبعض الصحابة أن يستدلوا بأدلة غير كاملة على عدم قتالهم، فأرشدهم أبو بكر وأفهمهم، وإذا بهم يفهمون ويرشدون، قال عمر: ما هو إلا أن شرح الله صدر أبي بكر حتى شرح صدري لما شرح له صدر أبي بكر، وكان إجماعاً على أنه إذا منع قوم الزكاة وحق الفقراء فإنهم يقاتلون على ذلك، فمن قتل فقد قتله سيف الإسلام، ودمه هدر، ومن قتل من يقاتلهم من أجل ذلك فقد احتمل إثماً عظيماً وكبيرة من كبائر الذنوب.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [العنكبوت: ٦٢].
أي: عليم بكل أحوال خلقه، فيعلم من الذي يصلحه الغنى ومن الذي يفسده، ومن الذي يصلحه الفقر ومن الذي يفسده، ولهذا تجد النبي ﷺ يقول عن الأغنياء.
(هلك المكثرون، إلا من قال هكذا وهكذا)، أي: بذل ماله لجميع النواحي.
والله وصف المؤمنين فقال عنهم: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [المعارج: ٢٤ - ٢٥].
وجعل في جمله صفة المؤمنين الذي لا يتم إيمانهم إلا به، أن في أموالهم حقوقاً لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، فالسائل: من يسأل حقه، وللمحروم من رزقه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن للسائل حقاً ولو جاء على فرس).
وقال: (لو صدق السائل لما أفلح المسئول).
حتى ولو كان عنده ما عنده، فأنت ينبغي لك إن وجدت سائلاً وكان عندك ما تعطيه أن تعطيه من القليل القليل، ومن الكثير الكثير، حسب قدرتك وطاقتك.