تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء)
قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٣].
يقول الله لنبيه: اسأل يا محمد هؤلاء الكفار، كما سألتهم من خلق السموات والأرض؟ فأجابوك: الله، وكما سألتهم من سخر الشمس والقمر للخلق؟ فأجابوك: الله؛ سلهم كذلك: هذه الأمطار التي تنزل إلى الأرض، وكانت جدباء غير منبتة، وكانت في حاجة إلى الماء، من الذي أنزل هذا المطر؟ من الذي أحيا هذه الأرض وأغاثها فأنبتت فيها من كل زوج بهيج؟ قوله: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا﴾ [العنكبوت: ٦٣].
أي: من بعد أن ماتت، بمعنى مات ما عليها من خضرة وثمرة، فهي لا تنبت، ولكن الله أمطرها، وأغاثها بالمطر، وإذا بها تهتز وتربو، وإذا بالبنات الأخضر ينبت من جديد، وإذا بالشجر يورق، وتشتد خضرته، ويعطي من الثمرات أنواعاً، ومن الفواكه أنواعاً، ومن كل ما يبهج ويحيي الناس والحيوان والطير.
﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [العنكبوت: ٦٣] وقد أجابوا وقالوا: الله.
﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [العنكبوت: ٦٣] أي: على أن الله هو خالق الكل، قل الحمد لله على أن اعترف هؤلاء بالحقيقة، رغم كونهم آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وحدوا الربوبية وكفروا بالألوهية، قالوا: الله رب كل شيء، وخالق كل شيء، ولكن جعلوا مع الله آلهة، ذكروا أصناماً، وأوثاناً، وذكروا أوليا من الملائكة والجن والناس، فافتروا على الله، وكانوا متناقضين، كيف والله هو الخالق وحده فتركتموه، وذهبتم لعبادة غيره، وللتعلق بغيره، وأشركتم معه غيره، مما لا يستطيع خلقاً ولا يستطيع رزقاً، ولا يستطيع حياة ولا موتاً.
قل الحمد لله الذي اضطر هؤلاء الكفرة لأن يعترفوا بالحق ولو كان ذلك اعترافاً جزئياً.
قوله تعالى: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٣].
بل حرف إضراب وهو إضراب عن الماضي، أي مع اعترافهم بتوحيد الربوبية، وبأن الله هو الخالق للسماء، والخالق للأرض، وللشمس والقمر، والمنزل للأمطار، والمحيي للأرض بعد موتها، ثم مع ذلك يشركون معه غيره، والحمد لله على أنهم اعترفوا بأن الخالق الرازق هو الواحد، ولكن أكثرهم لا يعقلون، فهم جميعاً ليس لهم عقول تميز، ولا تدرك، ولا تعي، ولا تفهم.
وهكذا فكل كافر لا عقل له، مهما نسبت له الفلسفة، والعلم والمعرفة، فهي ظواهر من الحياة الدنيا، ﴿وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم: ٧].
لا يعرفون حقيقة الحقائق، وهي وحدانية الله، فكيف يوصف هؤلاء بالعقل والعلم والفهم؟ فعلمهم أقل من علم الحيوان؛ لأن الحيوان يدرك ويفهم، ويوحد ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: ٤٤].
فكل شيء في الخلق يسبح بحمد الله، بلهجاتهم، وبلغاتهم، وبما يدركون ويفهمون، إلا الكافر من بني الإنس والجن، فتجد الحيوان أشرف منه، وأعقل منه، وأقرب للتوحيد منه.