تفسير قوله تعالى: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب)
قال تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٤].
يقول تعالى: قل إنما هذه الحياة الدنيا لهو ولعب، فالحياة الدنيا هي الحياة الأولى القريبة منا وليست إلا لهواً ولعباً، واللهو الباطل، فنومنا ويقظتنا، وتنقلنا وتكسبنا، كل ذلك لهو إن لم يكن لعبادة الله، وللعمل للآخرة: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة: ١٩٧].
فميزة الدنيا أنها برزخ الآخرة، وهي القنطرة للآخرة، فمن عبد الله فيها، ومن وحد الله فيها، فذاك، ومن لم يوحده فحياته كلها من مبتدئها إلى آخرها لهو ولعب، لهو باطل في التصرف في المنام في اليقظة لعب في المعاملة لعب في المناكحة لعب في الأولاد لعب في التجارة لعب في الزراعة، فما دام لم يعبد الله، ويعمل لما بعد الموت، فحياته كلها لهو ولعب، فالدنيا جميعها لهو وباطل ولعب.
فهذا يخاصم هذا ليكون كبيراً يأمر وينهى ويطاع، وهذا يحرص على أن يأكل مال هذا، ليملك أكثر وأكثر، ومع ذلك كما قال نبينا ﷺ (ليس لك من دنياك إلا ما لبست فأبليت، وأكلت فأفنيت) وما سوى ذلك يحاسب عليه ويكون ثقلاً يوم القيامة.
وهذا الغني كم سيأكل؟ وكم سيلبس من الأثواب؟ فطعامه أقل من طعام الفقير، لأنه أسرف على نفسه وأكل بتخمة أيام الشباب، وإذا به يمرض، وإذا بمعدته لا تستطيع الهضم، وإذا به يعيش بالحمية، يعيش بالجوع مضطراً، ولباسه لا يتجاوز لباس الفقراء، إذاً: لمن يجمع؟ يا من تبيت للخراب تبني ويا من تلد فللموت تلد ولكن الباقي الخالد ما قدمته في دنياك وجعلته برزخاً لأخرتك، من تلك الركيعات، وتلك الدريهمات التي تصدقت بها، سواء كانت زكاة واجبة، أو صدقة تطوع، أو نفقة على أولادك، أو السائلين والمحرومين، وما عدا ذلك فستأتي به ثقلاًً يوم القيامة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلك المكثرون).
وقال النبي عليه الصلاة السلام عن الأغنياء الصالحين: (فيدخلون الجنة زحفاً وسيسبقهم الفقراء بنصف يوم)، ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ [الحج: ٤٧].
أي يسبقونهم بخمسمائة عام، وهؤلاء الذين عملوا صالحاً سيدخلون الجنة، ومع ذلك سيدخلون زحفاً متأخرين عن الفقراء والمساكين الذين لا مال لهم يسألون عن زكاته، ولا جاه لهم يسألون عن جاههم، ولا سلطان لهم ولا نفوذ، بخمسمائة عام.
ونحن نرى الرجل الغني صاحب السلطان والنفوذ يعيش ثمانين سنة أو أقل أو أكثر ثم يهلك، فإذا بالأموال تقسم بعده لمن لا يرحمه، وإذا بالزوجات يتزوجن غيره، وإذا بالأولاد أخذوا تلك الأموال وصرفوها فيما لا يحل، والذي قذف في القبر يحاسب على ذلك، فهو الذي جمعه لهم، وهو يعلم أنهم سيصرفونه فيما لا يجوز وفيما يجعلهم للشيطان عوناً وقوة.
﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ [العنكبوت: ٦٤].
إن: للتوكيد.
وقوله: (لهي): اللام لام القسم، يقسم الله جل جلاله بأن الحياة الحق، والحياة الدائمة، هي حياة الآخرة، حياة من مات مؤمناً مطيعاً مسلماً، فهي الحياة الدائمة، في نعيم وجنان وحور عين: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٤].
هؤلاء الكفرة العصاة المشركون بالله، لو كانوا يعلمون حقاً، ولو كانوا يعلمون ديناً، ويميزون بين الحق والباطل، لعلموا أن الدنيا ذاهبة بخيرها وشرها إن كان فيها خير، وأن الحياة الحق، والحياة الدائمة هي حياة الآخرة، هي حياة الجنان، والرحمة والرضا، فلو كانوا يعلمون ذلك لما فعلوا ما فعلوه من معاص وذنوب وآثام.