تفسير قوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين)
قال تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٥].
هؤلاء الذين سئلوا: ﴿مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ [العنكبوت: ٦١].
من: ﴿سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ [العنكبوت: ٦١] من: ﴿نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا﴾ [العنكبوت: ٦٣] فأجابوا جميعاً: الله، هؤلاء كذلك إذا كانوا في البحر، فركبوا الفلك، وركبوا البواخر، تأتي الأمواج تتلاعب بهذه المراكب، فإذا بهم يجدون أنفسهم لا يدعون إلا الله، ولا يلتجئون إلا إلى الله، ولا يستغيثون إلا بالله.
قوله: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [العنكبوت: ٦٥].
أي: أخلصوا الدين لله فلم يدعوا مع الله شريكاً ولا ولياً، ولا صنماً ولا وثناً، وإنما دعوا الله وحده، مخلصين له دينهم وعبادتهم، والدين هنا العبادة والطاعة والدعاء.
﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٥].
حكوا أن روسيا عندما أرسلت الصواريخ إلى أعلى الفضاء، ووصلوا للقمر، بعثوا شاباً ملحداً منهم شيوعياً، فعندما أصبح بعيداً عن الأرض بآلاف الكيلو مترات، ورأى هذه الأفلاك مرفوعة، ورأى القمر يكاد يمسه بيده، ورأى الأرض ككرة؛ وجد نفسه يناجي الله بغير شعور! وعندما نزل سألوه، فقال: لما رأيت ذلك قلت: من رفع هذه ومن خلقها؟ فأجاب نفسه بنفسه: الله، وإذا بهم يعاقبونه ويسجنونه ويعذبونه، ولو أنه مع إيمانه بالله آمن بمحمد رسول الله لمات شهيداً حين مات.
ونعرف ملاحدة وشيوعيين واشتراكيين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فإذا أصابهم بلاء في بدنهم، أو مالهم، أو مناصبهم، تجدهم فجأة يقولون: يا الله! يا رب! وإذا رفع البلاء إذا بهم يعودون للشرك أقبح مما كانوا، وللشيوعية وللإلحاد أكثر ما كانوا، ولذلك ما يحكيه الله عن أولئك ليسوا إلا أمثلة من هؤلاء، فالكفر ملة واحدة وشكل واحد، ولم يكن كفار مكة أو كفار العرب إلا مثلاً لكفار الدنيا بكل أشكالها وأنواعها، وإلى يوم القيامة.
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٥].
أي: فلما نجاهم وأنقذهم من هول البحر، وأنزلهم للبر، فإذا بهم يعودون للأصنام والأوثان.
يحكي محمد بن إسحاق بن يسار، صاحب السيرة، بأن النبي ﷺ لما فتح مكة، فر منه من فر من كفار قريش، فكان ممن فر عكرمة بن أبي جهل، وبقيت زوجته لم تفر، بل آمنت، فسألت رسول الله العفو له إن جاء مسلماً، فأعطاها ذلك.
وخرج عكرمة ووصل إلى شواطئ الجزيرة، فوجد سفينة مسافرة إلى الحبشة فركبها، فبعد أن أصبحت السفينة في عرض البحر، أخذت تتلاعب بها الأمواج، والكل يصيح، وإذا بربان السفينة وسائقها وقائدها يقول للراكبين: لن ينفع دعاء اليوم إلا دعاء الله وحده، فادعوا الله جمعياً بأن ينقذكم! فإذا بـ عكرمة يقول: إن كان الله هو الذي سينقذنا من البحر، إذاً فهو الذي سينقذنا من البر، علي عهد الله إن أنقذني الله، وأصبحت في البر، أن أضع يدي في يد محمد وأن أومن به وبرسالته وبالكتاب الذي أنزل إليه، فأنجاه الله، ونزل إلى البر مسرعاً ودخل مكة، وفاجأ النبي عليه الصلاة السلام بالسلام عليه، وقال: جئتك مؤمناً مسلماً، يا رسول الله: مرني أمرك، واعف عما مضى، فقبل منه صلى الله عليه وسلم، وكان عكرمة ممن أسلم وحسن أسلامه وشارك في الفتوح أيام أبي بكر وعمر، فشارك في فتوح الشام، وفتوح العراق، وفتوح فارس، وكان البطل الذي لا يجارى، وقتل على يده المئات من أعداء الله الكفار.
ورزق الله المسلمين على يده من الغنائم الملايين، ومن الأرض ما لا يعد ولا يحصى، وذلك ابتداء من خلافة أبي بكر، إلى نهاية أيام عمر رضي الله عنهما وعن المسلمين، وعن الصحابة والفاتحين جميعاً.