تفسير قوله تعالى: (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله)
قال تعالى: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ [الروم: ٤ - ٥].
التنوين في (يومئذ) تنوين عوض عن جملة، أي: يوم نصر الروم على الفرس، والإدالة لهم منهم، يوم ذاك يفرح المؤمنون؛ لأنهم قد حزنوا قبل، فهم فرحوا بنصرة أهل الكتاب على الوثنيين، والوثنيون الذين هم خصومهم أشكال أضراب، فأعدائهم من كفار مكة والجزيرة، وبقية المجوس في مختلف أصقاع الأرض، وقد آمن الكثير من كفار الجزيرة عندما أحق الله ذلك، وانتصر الروم بعد الهزيمة.
﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ [الروم: ٤].
فاتخذوا من ذلك دليلاً وبرهاناً على صدق الرسالة المحمدية، وصدق القرآن، وأنه كلام الله الحق الذي نزل به الروح الأمين على قلب نبينا صلى الله عليه وعلى آله.
وفسر قوم قوله: ﴿لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ [الروم: ٤] أي: قبل النصر وبعده، وقبل الهزيمة وبعدها، فكما ذل الفرس فسيذل الروم، ويوم ذلهم جميعاً يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، أي: سيقهرون ويغلبون الفرس والروم معاً، وقد حدث هذا فعلاً فقد انتصر المسلمون على الروم وعلى الفرس ومحقوهم وأنهوا دولتهم، وكما أخبر المصطفى ﷺ عنهم: (لا كسرى بعد اليوم ولا فارس بعد اليوم)، فانتهت دولة الروم البتة وأصبحت جزءاً من بلاد الإسلام وولاية من ولاياتها، وذهب كسرى إلى جهنم وبئس المصير ولم يجئ بعده كسرى آخر، وكسرى لقب كل ملك فارسي وثني ملك الفرس، وهرقل لقب لملوك الروم، والنجاشي لقب لملوك الحبشة، والمقوقس لقب لملوك مصر، وتبع لقب لملوك اليمن.
فهذا المعنى صحيح ولكن سياق الآية لا يدل عليه، فالآية تتكلم عن الفرس والروم وقتالهم، وكون الفرس انتصروا أولاً على الروم في أدنى الأرض وهي جزيرة العرب، وهي أرض الشام بصرى وأذرعات ودمشق، ثم بعد ذلك أديل للروم من الفرس فانتصروا عليهم خلال بضع سنوات انتصاراً ساحقاً، فأرجعوا هذه الديار كلها، وعندما أخذ النبي عليه الصلاة والسلام يكتب الرسائل إلى ملوك الأرض وأجيالها كتب إلى هرقل وكان في القدس، والقدس كانت من الأراضي التي تغلب فيها الفرس على الروم، ولكن بعد أن أخذ يكتب النبي عليه الصلاة والسلام الرسائل إلى الملوك والأجيال كان الروم قد انتصروا، وكان ذلك بعد غزوة بدر، فكان كتابه إليه وهو في بيت المقدس، فعندما جاءه رسول رسول الله عليه الصلاة والسلام نادى هرقل: هل هنا من هو قريب إلى هذا الذي يزعم أنه نبي من أرض مكة، فأجاب أبو سفيان وكان قرشياً وأقرب العرب هناك نسباً لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فجاء به وأخذ يسأله عن وصف النبي وأصحابه خلفه وقال لهم: إني سائله فإن كذب فحركوا لي رءوسكم أعلم إذا خفتم منه ولن يراكم، وما دام قد قال الصدق فاثبتوا ولا تتحركوا، فسأله أسئلة فيها: هل كان في أجداد النبي ﷺ من ملك؟ هل ادعى هذه الدعوة أحد من أجداد النبي؟ وهل اتبعه الفقراء أو الأغنياء؟ وهل يغدر إذا قاتل؟ وهل كان يكذب وهو صغير؟ وهل كان يعرف بغير الحق مدة حياته بينكم قبل النبوءة؟ والعرب حتى في جاهليتها كانت أشرف من كثير من مسلمي هذا العصر عرباً وعجماً، فكان الجاهلي يستحي أن يكذب، ويجد ذلك مخلاً بمروءته، ومخلاً بشرفه، فمع العداوة والجاهلية التي كان عليها أبو سفيان استحيا أن يكذب، وقال: لم أجد مدخلاً إلى تنقيصه إلا عندما قال لي: أيغدر؟ قلت: بيننا وبينه الآن عهد ولا ندري ما هو فاعل بعدها، يعني: يعرض أنه قد يغدر، وهذه علامة ليس فيها شتيمة، فهو لا يدري الغيب، ولا يدري المستقبل إلا الله، وهكذا عندما أخذ النبي يكتب الرسائل بالدعوة إلى الإسلام كان ملك الروم قد انتصر على كسرى واسترجع دمشق وأذرعات وبصرى والقدس.
﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ [الروم: ٤ - ٥].
ونصر الله يؤتيه من يشاء.
فيعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويؤتي الملك من يشاء، وينزعه عمن يشاء، وفي كل ذلك سواء كان ذلك لمؤمن أو كافر فهو ابتلاء واختبار؛ ليرى -وهو راءٍ وعالم- هل هذا الذي ابتلي بالملك وبالجاه، وبالسلطان، وهل هذه الأمة التي انتصرت وعزت وسادت هل ستحمد الله على ذلك، وهل ستتخذ ذلك نعمة فتكثر الشكر، وتكثر عمل الصالحات؛ ليديم الله نعمه على من أكرمه بذلك، وهكذا ربنا يقول: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: ٧].
والعذاب الشديد هو سلب النعمة وزوالها، نعوذ بالله من السلب بعد العطاء.
﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [الروم: ٤ - ٥].
فالنصر له والعزة له، والأمر له من قبل ومن بعد، فقد نصر المجوس على الكتابيين ابتلاءً للكتابيين لما غيروا وبدلوا لعلهم يتوبون، ونصر المجوس على أهل الكتاب لتزداد النقمة عليهم، ولتبقى الحجة البالغة عليهم على كثرة ما أعطاهم من نعم وعطايا، فما زادهم ذلك إلا كفراً بالله وإصراراً على الجحود.
﴿يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الروم: ٥].
فهو العزيز الذي لا يغالب، هو العزيز الذي لا يحارب، فله العز انفرد به، وله الكبرياء، ومن يتألى على الله يكذبه، وهو الرحيم بعباده، فهو يرحم المؤمن من الذل ومن الهزيمة ومن الضعف ومن البلاء عندما يتوب ويئوب إلى الله ويقول: رب اغفر لي خطيئتي.
وهكذا الله جل جلاله يختم آياته في كتابه الكريم بكلمات تكون جوامع لمعنى الآية صغيرة كانت أو كبيرة، مختصرة كانت أو مطولة، وهذا من ذاك.