تفسير قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها)
قال الله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: ٣٠].
فقوله: (فأقم وجهك للدين حنيفاً)، أي: أقم وجهك يا محمد! فاجعله متفرغاً مسدداً إلى الدين، والحنيف المائل للحق، والمائل عن الباطل، والحنيفية ملة أبيكم إبراهيم، وأتمها الله لنبيه محمد ﷺ فرائض وأركاناً، وواجبات وسنناً.
والخطاب للنبي تدخل فيه أمته، والمعنى: ولتقم أمتك معك وجهها ودينها وطاعتها وعبادتها لله، فتتجه للدين الحنيف، دين الإسلام، دين الحنيفية السمحة، هذا الدين الذي خص الله به أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله فقم عليه أنت مدة حياتك، فاجعل نفسك ووجهك واتجاهك لله وحده مخلصاً له الدين، دون مراءات ولا تسميع، وكما أنه أمر للنبي ﷺ فهو أمر للناس جميعاً، فمن آمن فقد آمن ونفسه هدى، ومن لم يؤمن فنفسه أضل وما أضل غيرها.
فقوله: ﴿لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ [الروم: ٣٠].
الدين هو ما دان به الإنسان، وخضع له، وتمسك بحقائقه، وجعله معتقداً ينطوي عليه قلبه وجنانه، ولذلك لا يقال عن الأمور الدينية: نظريات أو صور أو دراسات لا يقول ذلك إلا شاك أو مرتاب، ولكن الدين ما أدان الإنسان به قلبه ونفسه، واتجه إليه بكليته ولم يشرك به أحداً، بل كان خالصاً لله وحده بقلبه ظاهراً وباطناً، واستمر على ذلك حياته كلها.
وقوله: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٠].
أي: هذا الدين فطرة الله، و (فطرة) مفعول مطلق من فطر، ومعناها: أن الله فطر الخلق على الإيمان، فخلقهم بفطرتهم مؤمنين موحدين، يوم خلق آدم وذريته في صلبه، وقال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: ١٧٢].
ثم عندما نفخت الأرواح في الأجسام فمن كان مؤمناً طائعاً آمن جسمه كما آمنت روحه، ومن كان كافراً بقيت روحه على فطرتها وأبى إلا الكفور والجحود والعصيان.
قال تعالى: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ [الروم: ٣٠] أي: فطر الخلق كلهم، وفي الحديث الوارد عن جابر بن عبد الله وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم وغيرهم كما عند أحمد في المسند وفي الصحيحين والسنن الأربع: أن النبي ﷺ قال: (إن الله يوم خلق الخلق خلقهم وفطرهم على الإيمان فاجتالتهم الشياطين).
وفي الحديث القدسي: (خلقت الخلق وفطرتهم على الإيمان فاجتالتهم الشياطين فبدلوا أديانهم)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام ومعنى اجتالتهم: أبعدتهم، فغيرت وبدلت.
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فطرة الله التي فطر الناس عليها هي الإسلام)، أي: هي الدين، فالله فطر العباد يوم فطرهم على الإيمان.
وقال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء ليس فيها جدعاء)، أي: كما تلد البهيمة فصيلها سالماً من الجدع، وهو: قطع الأذن أو قطع الأنف، كما كان أهل الجاهلية يفعلونه في الحيوانات، ويجعلون لله ما يكرهونه، ويقولون: هذا لله في زعمهم، وهذا لشركائهم، والله خلقها يوم خلقها سالمة ليست جدعاء.
وهكذا خلق الخلق جميعاً موحدين ليس فيهم يهودي ولا نصراني ولا مجوسي، فإذا كبر الوليد فأبواه ينصرانه أو يكفرانه أو يهودانه أو يمجسانه، وكان عمر رضي الله عنه أيام خلافته يكتب لسفرائه وأمرائه وقواد جيوشه بألا يدعوا النصارى ينصرون أولادهم، وألا يدعوا اليهود يهودون أولادهم، وألا يدعوا المجوس يمجسون أولادهم، فكل مولود يولد على الفطرة -والفطرة: الإسلام- ولكن الوالدة والبيئة والنشأة هي التي تغيره، فتجد أن الولد يولد مؤمناً، ويعيش معك في البيت مؤمناً، فإذا أرسلته إلى أمريكا أو أوروبا أو إلى اليهود أو النصارى أو الشيوعيين أو الاشتراكيين إذا بهم يغيرون دينه من إيمان بالله إلى إيمان بشياطين الدنيا والآلهة الكذبة والمتنبئين الكذبة مثل: ماركس ولينين وأمثالهما من الطواغيت أعداء الله والرسل الكرام وأعداء الأديان كلها وخاصة دين الإسلام.
فالإسلام هو فطرة الله التي فطر الله الناس عليها جميعاً مؤمنهم وكافرهم، ولكن الكافر أضله أبواه، والمؤمن بقي على إيمانه، فإن وجد أباً وأماً صالحين فذلك من حسن حظه وسعادته، وإن كان غير ذلك فمن شقاوته ومما قدر الله عليه في سابق أجله في اللوح المحفوظ.
وقوله تعالى: ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٠]، (لا تبديل) خبر بمعنى الأمر، أي: لا تبدلوا خلق الله، ولا تغيروا التوحيد إلى الشرك، ولا تغيروا الإسلام إلى النصرانية أو اليهودية أو المجوسية أو الشيوعية التي تعبد ماركس ولينين.
وجميع هذه الأديان المستوردة باطلة، وهي مجوسية جديدة وفساد وباطل جديدين، فقد كانوا يعبدون النار والظلمة، وما زالوا كذلك، ولكن في كل عصر يجعلون لذلك مظهراً، فجعلوا في هذا العصر مظهر الظلم والكفر والشرك وتبرج المرأة والبعد عن الله، حتى أصبح هذا العصر عصر الذين يخرجون من دين الله أفواجاً وعصر المجوسية الجديدة في الشرك بالله وعبادة أناس جمعوا الأقذار والأوساخ والظلمات، مثل: ظلمة الشرك والعقل والحياة وظلمة الإنسانية والكرامة والشرف، وهؤلاء هم آلهتهم الجديدة التي عكفوا على عبادتها من دون الله.
قال تعالى: ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٠]، أي: لا تغيروا خلق الله من الإيمان والتوحيد الذي خلقكم عليه، ومن يفعل ذلك فلا يلومن إلا نفسه، وما هي إلا أعمالكم يجمعها الله لكم يوم القيامة، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
وقال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ [الروم: ٣٠]: بقيت دهراً لا أفهم هذه الكلمة (فطرة)، إلى أن سمعت بدوياً يقول لآخر مثله: أنا الذي فطرتها، يعني بذلك: هو الذي زرعها، وهو الذي وقف على قيامها إلى أن أينعت وأثمرت وأنتجت، قال: ففهمت المقصود بقوله: (فطرة الله)، أي: الذي ابتدأ خلقها من غير مثال سابق، فهو الذي أنشأها أول نشوئها، فهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده.
قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ [الروم: ٣٠].
أي: ذلك دين الحنيفية والفطرة التي فطر الله الناس عليها يوم خلقهم وفطرهم وأنشأهم، وهو الدين الذي يجب أن يدين به كل إنسان.
و (القيم): ذو القيمة والسداد والحق والصواب، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٨٥].
فالإسلام هو الدين الذي نسخ الأديان السابقة وكانت قد غيرت وبدلت دخلتها الوثنية وعبد فيها عيسى ومريم والعجل، وقال اليهود عن أنفسهم: إنهم أبناء الله، فأصبحت اليهودية والنصرانية وثنيتين كبقية الأوثان، ثم صنفت طبقات الكفار إلى وثنيين من أصل كتابي، ووثنيين من أصل أصيل كالمجوسية.
قال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: ٣٠].
وهم جميع الكفار وهم أكثر الناس، وأكثر الناس لا يعلمون أن الإسلام هو الدين الحق، وأنه الدين القيم الحنيفي، وأنه دين إبراهيم الذي ارتضاه الله للناس عندما أرسل له مجدداً خاتم الأنبياء محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهم لا يعلمون ذلك، بل قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ١١٦]، وقال: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف: ١٠٣].
فأكثر الناس لا يعلمون، وأكثرهم كافرون ومترددون وشاكون ومرتابون في الإسلام، والشك في الإسلام كفر؛ لأنه يشك بأن الإسلام ليس ديناً صحيحاً، فهو يعيش ضالاً وإن بقي كذلك فسيموت ضالاً.


الصفحة التالية
Icon