تفسير قوله تعالى: (فآت ذات القربى حقه)
قال تعالى: ﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الروم: ٣٨].
يقول تعالى آمراً: آت ذا القرابة من أرحامك وأقربائك الأقرب فالأقرب، أمك وأباك، ثم أختك وأخاك، ثم أدناك أدناك ممن هم في حاجة لك فآته من العطاء والنفقات والزكوات والصدقات ما يكفيه ويغنيه عن الناس، وعن مد اليد إليهم، وذاك حق من حقوقه، فحق على القريب ألا يدعه يمد يده للناس إذا احتاج، فإن أحوج أقاربه وأرحامه بأن يمد يده للغير وكان غنياً ساءت حاله وهلك دينه، وعليه أن ينتظر العذاب والنقمة من الله؛ لأنه قد أذنب وأساء.
والمسكين هو: الذي لا يجد ما ينفق، والمحتاج هو: من ليس له طعام يومه ولا كفايته فيما يطعم ويشرب ويلبس ويسكن، فهذا المسكين له حق على أغنياء الناس بأن يعطوه حقه، فـ (إن في المال حقاً سوى الزكاة)، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
وقد وصف الله تعالى المؤمنين بقوله: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [الذاريات: ١٩].
فمن صفة المؤمن حقاً أن في ماله حقاً للسائلين المحتاجين وللمحرومين المساكين، فإن لم يكن كذلك فإما أن يكون ناقص الإيمان، أو عديمه البتة.
وأما ابن السبيل فهو: ابن الطريق العابر الذي ليس من أهل البلد، وإنما هو سائح لمصلحة من المصالح فاحتاج ولو كان غنياً في بلده، ولكن بلده بعيدة عنه وماله ليس تحت يده، فله حق على من كان عنده غنى وفضول مال، فيجب أن يعطى ما يغنيه عن الناس طعاماً وشراباً وسكناً ولباساً إلى أن يعود إلى بلده.
وبعضهم فسر ابن السبيل: بالضيف الذي نزل عليك، فهو ابن سبيل؛ لأنه ليس مقيماً البتة ولا فرداً من العائلة، وإنما هو عابر، وللضيف حقوق، وقد كان ذلك عند العرب في الجاهلية، وكان ذلك من محاسنهم ومن مكارم أخلاقهم، فجاء الإسلام بتأكيد ذلك والإلزام على التمسك به ديناً وخلقاً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وهذه من مكارم الأخلاق التي أتى النبي عليه الصلاة والسلام ليتممها ويكملها؛ حتى تصبح ديناً وخلقاً للمسلم.
وحق الضيف ثلاثة أيام بلياليها، وعلى المضيف في الثلاثة الأيام ألا يسأل الضيف عن اسمه ولا عن عشيرته، وإنما ذلك للضيافة في حقها، وأما السؤال فيأتي بعد ذلك، فإن وجده -ولم يكن قد ذكر له اسمه قبل- ذا عشيرة ماسة ورحم قريبة زاد من صلته، وكذلك يزيد من صلته إن كان ذا جوار سابق أو ذا صلة بالآباء والأجداد.
ومن الود أن يكرم الرجل أهل ود أبيه، فالضيف وعابر السبيل لهما حقوق مضاعفة وواجبات مترادفة، والله يعلمنا في هذه الآية الكريمة وأمثالها مكارم الأخلاق ومحاسن المعاملات مع القريب والبعيد، وقد أخبر تعالى بأن الرزق رزقه في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ [الروم: ٣٧].
والذي بسط له رزقه أوجب عليه فيه واجبات من صلة الأرحام والمساكين والصدقات لعابري السبيل، وأوجب في ماله حقاً للقريب.
﴿ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ [الروم: ٣٨]، أي: لا يريد بذلك إلا الدار الآخرة والثواب من عند الله، لا رياء ولا سمعة، ولا للصلة الماسة فقط، ولكنه يفعل ذلك لأن الله أمر به ودعا إليه وحض عليه، فهذا خير له، والخيرية المقصودة هي رضا الله عنه، وهي رحمته التي هي دخول الجنان يوم القيامة.
﴿ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الروم: ٣٨]، أي: لأولئك الذين يريدون بأعمالهم وجه الله والإخلاص له دون رياء أو سمعة أو ثواب هدية أو مبادلة ومقارضة في الهدايا والعطايا والصدقات، فهم لا يريدون بأعمالهم إلا الله والدار الآخرة وامتثال أمر الله.
﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الروم: ٣٨]، أي: الذين أفلحت وجوههم بالرضا الإلهي وبالرحمة الإلهية وبالدخول إلى الجنان، خالدين فيها أبداً سرمداً.


الصفحة التالية
Icon