تفسير قوله تعالى: (تلك آيات الكتاب الحكيم)
قال تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [لقمان: ٢ - ٤].
قال تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ [لقمان: ٢].
تلك الآيات الكتابية والأحرف الهجائية التي ترتب منها كتاب الله وكلامه المعجز هي بينات الله وأحكامه في الحلال والحرام وفي الإعجاز وبيان القدرة والآيات الدالات على الوحدانية والقدرة الإلهية.
الحكيم: في أوامره ونواهيه، والحكمة: وضع الشيء في محله، والقرآن كذلك، فلا يضع أوامره ونواهيه إلا في محلها، فكان في ذلك البلسم الشافي لهداية الخلق إلى مصالحهم وإلى معاشهم ومعادهم وفي دنياهم وآخرتهم.
قال تعالى: ﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ﴾ [لقمان: ٣].
أي: حال كون تلك الآيات نزلت هداية ورحمة من الضلال ومن العذاب إلى طريق الحق المستقيم، والطريق الحق هي الإسلام ودين محمد عليه الصلاة والسلام، والقرآن الكريم هو الذي بين ذلك وأوضحه؛ فلذلك وصف بذلك على أنه حال له.
وقرئ: (هدى ورحمة) بالرفع على أنه كلام مستأنف، أي: هذا الكتاب الكريم الحكيم هو هدى للناس ورحمة لهم، يهديهم من الضلال ويرحمهم من العذاب.
وقوله: (لِلْمُحْسِنِينَ)، أي: للمؤمنين الذين أحسنوا طاعة ربهم والقيام بدينه، والإحسان يأتي في المرتبة الثالثة في بيان الإيمان والإسلام، وقد سئل ﷺ عن الإيمان فذكر المعتقدات فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر)، وسئل عن الإسلام فذكر الشريعة المطهرة: أن تصلي خمس صلوات في اليوم والليلة، وأن تصوم شهراً من كل عام، وأن تزكي مالك، وأن تحج بيت الله الحرام ثم سئل عن الإحسان فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
فالإحسان هو: أن تعبد ربك العبادة الخالصة له كأنك تراه ببصرك، فإن لم يمكن ذلك ببصرك فليكن ذلك في ضميرك ونفسك، وما تصل له بيقينك فعلى الأقل أن تعتقد اعتقاداً جازماً قاطعاً بأنك إن لم تره فإنه يراك، فإذا كان العبد يعبد الله تعالى ويعلم بأن الله يرى عبادته وقيامه وقعوده ويراه في ليله ونهاره ويستحضر هذا في نفسه فإن عبادته تكون خالصة من أن ينالها رياء أو سمعة أو إشراك بغير الله، وذاك المراد.
قال تعالى: ﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [لقمان: ٣ - ٤].
فهؤلاء المحسنون هم الذين يقيمون الصلاة، ونرى ذكر الصلاة يأتي دائماً بعد الشهادتين والعقائد والإيمان بالله وبكتابه وبرسله.
وإقامتها: إتيانها في أوقاتها بأركانها وواجباتها وشرائطها مع الخشوع والاطمئنان والأذكار المذكورة والمطلوبة في الصلاة، تلاوة وتسبيحاً وتعظيماً وتكبيراً وقياماً وركوعاً وجلوساً وسجوداً، والصلاة هي: أفعال مخصوصة مبتدأة بالتكبير منتهية بالتسليم.
فالمقيم لهذه الصلاة بكل أركانها وآدابها هو من المحسنين.
قال تعالى: ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [لقمان: ٤]، أي: يزكون أموالهم، والزكاة في لغة العرب: التنمية والنماء والزيادة، وظاهر الفعل أن الزكاة: النقص، أي: أنك ستنقص من مالك قدراً تؤديه لمن ذكر الله من الفقراء والمساكين ومن إليهم، ولكن هذا النقص هو زيادة في الحقيقية، قال تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ [البقرة: ٢٧٦].
فالزكاة تنمي المال وتضاعفه وتكثره ما دمت تؤدي حق الله فيه، وحق الفقراء والمساكين، وحق القرابة وذوي الأرحام كما أمر الله جل جلاله.
قال تعالى: ﴿وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [لقمان: ٤]، كررت (هم) للتأكيد، أي: هم يوقنون بالآخرة دواماً واستمراراً، وإيمانهم بالآخرة وبيوم القيامة والبعث وعودة الأرواح إلى أجسادها يوم عودة الحياة ثانية لا شك فيه ولا ريب ولا تردد، وذلك يقين في القلب، وهذه عقيدة يوقن ويؤمن بها المسلم وإلا لكان شاكا ًمرتاباً متردداً، والشك والارتياب كفر، وقد بنيت عقيدة المسلمين على اليقين القاطع الذي ليس فيه شك ولا ارتياب.
فهؤلاء المحسنون الذين يقيمون الصلاة ويؤدون الزكاة مع إيقان ذلك في أنفسهم عقيدتهم ثابتة بأنهم فعلوا ذلك لله ولما أمر به، وما نزل على نبينا عليه الصلاة والسلام من وحي ورسالة، وهم يوقنون بأن يوم الآخرة يوم حق، فهم يعملون لذلك، حتى إذا عرضوا على الله وسئلوا عن أعمالهم كانوا موقنين متأكدين غير شاكين ولا مرتابين في يوم البعث.


الصفحة التالية
Icon