تفسير قوله تعالى: (خلق السماوات بغير عمد ترونها)
قال تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ [لقمان: ١٠].
يقول جل جلاله: هذه السماوات التي ترونها الله هو الذي خلقها جميعاً بغير عمد، وهي قائمة بقدرته وبإرادته، وأنتم ترونها بأعينكم بغير عمد، فمن الذي حملها على ثقل جرمها وأطباقها طبقاً عن طبق؟ ومن الذي حملها في هذا الفضاء الواسع؟ ومن حمل ما بين السماء والأرض وحمل هذه الأرض وهي بغير عمد نراها؟ قوله: ﴿وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [لقمان: ١٠].
الرواسي جمع راسية، والراسية هنا الجبل، أي: ألقى فيها وثبت جبالاً في مختلف قارات الأرض وبقاع العالم في مشارق الأرض ومغاربها في جميع القارات، فهذه الجبال كانت لحكمة إرساء الأرض أن تميد بكم، أي: كي لا تميد بكم ولا تضطرب وتميل براكبيها والمقيمين عليها، فتصير تارة بطناً وتارة ظهراً، فلا تكاد تقيم بناء بل ولا يستطيع أحد القيام على رجليه، فأرسى الله الأرض بالجبال؛ لكي لا تميد ولا تضطرب ولا تميل بساكنيها وبالمقيمين عليها، فالله خلق الجبال لحكمة، وهو قد وصف نفسه بالحكيم، والحكيم هو: الذي يضع الأمور في مواضعها.
والعمد: جمع عمود، وهو الذي بناها فلم يحتج فيها إلى عمد، ونحن كذلك نراها محمولة بغير عمد، وهذه لا تحتاج إلى دليل لا من عقل ولا من كتاب، ونحن نراها رأي العين، ومثل ذلك الأفلاك العلوية جميعها والتي لا يحصي عددها إلا الله، ومثل ذلك الأرضين من الأولى إلى السابعة حملها ثم خلق عليها الجبال وأرساها بها كي لا تميل ولا تضطرب وإلا لمادت بنا واضطربت ولما حملت بناء ولا قائماً على رجليه، فالأرض تحتاج إلى من يرسيها، وقد خلق الله لها الجبال فأرستها وأقامتها حتى لا تضطرب.
قال تعالى: ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ [لقمان: ١٠].
أي: بعثر وشتت ووزع في مختلف بقاع الأرض من جميع ما يدب على وجه الأرض ممن يمشي على رجلين وعلى أربع وعلى بطنه، ولم يذكر الطائر؛ لأنه قبل أن يطير كان يمشي على رجليه، ولا يبقى طائراً دوماً، بل يمشي على رجلين ثم يطير فينزل، ثم يطير، وهذه الدواب التي تدب على وجه الأرض من كل شكل ومن كل نوع لا يحصي عددها إلا الله، ولا يعلم أنواعها وأشكالها من الطير والحيوانات والحشرات إلا الله.
وقد ذكروا في الصحف أنه اكتشف في أرض الفلبين تسعة آلاف جزيرة، وأكثر هذه الجزر خالية لا يذهب إليها أحد، ولا حياة فيها، فنزلوا في جزيرة فوجدوا فيها براكين قد طفئت ووجدوا في فوهتها حفرة حفرها بعض البشر من العصور الحجرية، وهم أناس يلبسون جلوداً من جلود النمور والضباع، ولا يفهمون لهم قولاً ولا كلاماً، وهم أشبه بالحيوان منهم بالإنسان وإن كانوا أجساداً كاملة بيدين ورجلين وسمع وبصر، ويعيشون على ما يصطادونه من البحر ومن الطير وحشرات الأرض، وقد حاولوا بكل ما يملكون أن يتفاهموا معهم فلم يتفاهموا، وذكروا أن أعدادهم عشرات وليسوا بالكثير وهذا أشبه بما قص الله علينا من قصة ذي القرنين الذي بنى السد، وذكر الله أنه وصل إلى أقوام لا يكادون يجيدون القول ولا الكلام، ولا يكاد يتفاهمون.
ولا تزال أرض الله فيها من الغرائب والعجائب، وكل مرة يقولون: قد علمنا، ثم يجدون أنفسهم لا يعلمون شيئاً، وهذا كما قال تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم: ٧]، فقد علموا بعض الظواهر وخفيت عنهم جميع البواطن والكثير الكثير من الظواهر كذلك.
وأما إذا جئنا إلى البحار وما في أعماقها وإلى الأجواء وما بين الأفلاك والأنجم والكواكب فهم أجهل بذلك، وأما معرفتها فكما قال الله: ﴿وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم: ٧] فما الذي أغفلهم وأبعدهم عن العلم الحق والمعرفة بالله وإلى ما تئول بهم الحياة؟ قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ [لقمان: ١٠].
أي: وأنزل تعالى من السماء غيثاً مطراً فأنبت بهذا المطر من كل زوج كريم، ومن كل شيء زوجين.
وهكذا خلق الله الخلق ذكراً وأنثى، لا يدومون إلا إذا كان الذكر مع الأنثى، الذكر يلقح والأنثى تتلقى، وهكذا يدوم النوع باللقاح وباللقاء بين الذكر والأنثى، وهكذا قل في النبات وفي الحيوان وفي الحشرات وفي الإنسان، فإذا اندثر فرع فمعناه لم يبق ذكر وأنثى بسبب انقراضهما، وكما يذكرون فقد انقرضت أنواع كثيرة من الحيوانات التي وجدوا آثارها قديماً في الحفريات التي حفروها، وهي لا تعرف اليوم، ويتخوفون أن يندثر الكثير الكثير من أنواع الحيوانات التي كانت بكثرة في الأرض، ثم قلت نتيجة الصيد والتجارة والحيوانات التي يصادونها في اللعب والفرجة وجمع المال بذلك.
﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ [لقمان: ١٠].
قال الشعبي: ﴿مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ [لقمان: ١٠] إنسان وحيوان ونبات، فالإنسان أيضاً من الأرض، وخلق من الأرض، وأصلنا من التراب، ومن التراب تكونا بعد ذلك، وخلقت أمنا حواء من ضلع أبينا آدم كما أخبر القرآن وبين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجميع النباتات والحيوانات وما يدب على الأرض خلق الله منه زوجاً، أي: اثنين ذكراً وأنثى، ونوح أخذ معه في السفينة من كل شيء زوجين، ذكراً وأنثى من أنواع الدواب والحيوانات وغيرهما؛ حتى تعود الحياة بعده مرة ثانية على وجه الأرض.
وكريم أي: مبهج، كما قال تعالى: ﴿مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: ٥]، أي: يبهج النظر، وهو الأحسن في النظر والأكرم في نفسه حسناً وبهاء وبهجة.