تفسير قوله تعالى: (ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم)
قال تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [لقمان: ٢٣].
فنبينا عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على هداية الناس، ولكن الله لم يكلفه بالهداية، وليست الهداية هي رسالة الأنبياء والرسل، وإنما رسالتهم أن يبلغوا الناس ما أمرهم الله بتبليغه.
وأما الهداية فهي على الله، قال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: ٢٧٢]، وقال تعالى: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: ٥٦].
وكان نبينا عليه الصلاة والسلام يجهد نفسه أحياناً في سبيل هداية الناس، فقال الله له: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٣]، أي: لعلك مهلكها ومؤذيها، وهذا لم يكن الأمر ولا الرسالة التي ابتعثت بها، وهذه الآية كتلك، ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ﴾ [لقمان: ٢٣].
أي: من كفر بعد البلاغ والرسالة، وبعد وحي الله الذي سمعه، وبلغه حلالاً وحراماً، وعقائد وآداباً، وقصصاً ورقائق، في هذه الحالة إن بقوا على كفرهم، وأصروا على شركهم، فلا يحزنك ذلك، فلهم عذابهم، ولهم كفرهم، وهم لم يضروا أحداً إلا أنفسهم، وليس عليك الهداية وإنما عليك البلاغ.
﴿وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ﴾ [لقمان: ٢٣]، أي: من كفر بعد البلاغ والتبليغ وبعد إسماعه كتاب الله وما أرسلت به فلا تحزن عليه، ولا تكرب من أجله، ولا تحمل نفسك ما لم تؤمر به مما لا طاقة لها به.
﴿إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا﴾ [لقمان: ٢٣]، أي: إلينا مرجع هؤلاء ومآبهم، فهم سيحيون بعد الموت، ويبعثون إلى الله، ويعرضون عليه، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وسيعلمون عند ذاك ما قدمت أيديهم، وما أسوأ فعالهم، فلكل نفس عملها وما سعت إليه، فسيعلمون عند ذلك من المحق من المبطل، وماذا كنت تأمرهم به، وهل كنت تدعوهم إلى صلاحهم وإلى جنتهم وإلى رحمة الله بهم أم إلى غير ذلك.
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [لقمان: ٢٣]، الله جل جلاله العليم بما تخفي الصدور، وهو عليم بالضمائر، وبما لم ينطق به لسان، وبما ينوي به إنسان، فالله يعلم المعلن ويعلم السر وأخفى من السر، فالسر هو ما أسررت به لواحد، والأخفى من ذلك ما لم تنطق به وأضمرته فالله يعلم ما أسررت به لواحد أو أكثر أو أعلنت به بين الملأ، أو كتمته في نفسك فلم يسمع به أحد.
وهذا إنذار من الله وتهديد ووعيد للذين كفروا، وأن مآلهم إلى الله، ورجوعهم إلى الله، فسيعلمون أن أعمالهم قد سجلت عليهم، فمن أوتي كتابه بيمينه فقد اهتدى، ومن أوتي كتابه بيساره فقد ضل، وكان قد أبى الهداية وهو لا يزال حياً في دار الدنيا، والله عالم بأسرارهم، وعالم بضمائرهم، وعالم بما تخفي الصدور وبذوات الصدور.


الصفحة التالية
Icon