نسخ التوارث بالأخوة الدينية وجعل التوارث بين الأرحام
قال تعالى: ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾ [الأحزاب: ٦].
أي: كان التوارث في صدر الإسلام بالأخوة وبالحلف، وذلك عندما هاجر المؤمنون من مكة للمدينة، وكان قد سبقهم بالإيمان بعض سكانها من الأوس والخزرج ممن أطلق الله عليهم بعد ذلك الأنصار، فقال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ﴾ [التوبة: ١٠٠].
فسمى الله المهاجرين بدينهم من مكة للمدينة مهاجرين؛ لأنهم هاجروا إلى الله ورسوله، هجروا الأوطان والمساكن والأموال، فراراً بدينهم من الكفر وأعداء الله.
فعندما هاجر أهل مكة للمدينة آخى النبي عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار أخوة خاصة زيادة على الأخوة العامة، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠]، وكانوا بهذه الأخوة يتوارثون، فيرث المهاجري الأنصاري، ويرث الأنصاري المهاجري، وكان هذا في صدر الإسلام، ثم نسخ الله جل جلاله ذلك وقال: ﴿وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: ٦].
الأرحام: الأقارب كالأولاد بالنسبة للأب والأم، والأبوان بالنسبة للأولاد، فهم أولى بالإرث من بقية الأرحام والعصبة، وهم أولى بالإرث مما كان في صدر الإسلام من التوارث بالإيمان وبالأخوة الدينية، وهذه الآية نسخت ما كان قبل.
قال تعالى: ﴿كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا﴾ [الأحزاب: ٦] أي: كان هذا الأمر في التوارث بين ذوي القرابات وذوي الأرحام هو الأصل في كتاب الله في اللوح المحفوظ، ولكن ذلك نسخ بعد هذا، وكما سبق أن قلت أكثر من مرة: الكتاب كتابان: كتاب من قبل الحق، وكتاب من قبل الملائكة، فما كان من قبل الله لا يبدل ولا يغير، قال تعالى: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾ [ق: ٢٩]، وما كان من قبل الملائكة يبدل ويغير، قال تعالى: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: ٣٩] وأم الكتاب هو أصل اللوح المحفوظ، وهو ما كان من قبل الله جل جلاله، ولا يراه غيره.
والملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون إنما يرون اللوح الذي من قبلهم، فيمتثلون ما وجدوا فيه من تحليل وتحريم، ومن أمر ونهي، من التوارث بين المؤمنين من أنصار ومهاجرين قد كان ذلك في الكتاب الذي من قبل الملائكة فأمروا به ونهوا، ونزل جبريل على النبي عليه الصلاة والسلام في الأمر بذلك، ولكن الذي في أم الكتاب هو ما قال الله عنه: ﴿كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا﴾ [الأحزاب: ٦].
أي: في اللوح المحفوظ الذي هو من قبل الله أن التوارث لا يكون إلا بين الأرحام، بحيث يرث بعضهم بعضاً، ويتولى بعضهم بعضاً غرماً وغنماً، والغنم بالغرم، فعلى الأولياء أن يقوموا بأوليائهم عند الحاجة، ومن هاهنا يقع التوارث بين الأرحام.
فقوله: ﴿وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا﴾ [الأحزاب: ٦] فلا يجوز التوارث بين الأباعد بمجرد الإيمان وأخوة الإسلام، وإنما التوارث يكون بين الأرحام، ((وَأُوْلُو الأَرْحَامِ)) أي: من المؤمنين؛ ولذلك لا توارث بين دينين كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يرث مؤمن كافراً، ولا يرث كافر مؤمناً) وإنما التوارث بين الأرحام من المؤمنين.
وقوله: ((إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا)).
أي: إلا أن يأتوا إلى الأولياء الأقارب، ويفعلوا إليهم معروفاً، والمعروف: هو الوصية بالثلث، أو العطية يداً بيد، والإحسان والنفقة، إن كان ميتاً فوصية، وإن كان حياً فعطية ومنحة وهبة، ولم يمنع الله الوصية والمعروف والعطية والمنحة بين الأرحام المؤمنين الأقارب، وإنما حرم التوارث بالإيمان والإسلام مع البعد عن الرحم، وعن القرابة.