تفسير قوله تعالى: (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم)
قال الله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ [الأحزاب: ٢٦].
الآية السابقة خصت قريشاً وغطفان ممن جاءوا من مكة ونجد من الوثنيين، وهذه الآية خصت أهل الكتاب، والكل كافر ذليل كاذب على الله، وعدو لله ولرسل الله، فقال الله عن أهل الكتاب من يهود المدينة: ﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ﴾ [الأحزاب: ٢٦].
أي: أنزل الذين ظاهروا الأحزاب على رسول الله ﷺ وأصحابه، فهؤلاء اليهود الذين ظاهروا الأحزاب وساندوهم وعاونوهم أنزلهم من صياصيهم.
والصياصي: جمع: صيصة، وهي القلاع المحصنة، فهؤلاء الذين تحصنوا في حصونهم وقلاعهم، يظنون أن تلك القلاع ستحميهم وستمنعهم من رسول الله ﷺ وأصحابه، فأنزلهم الله ذليلين حقيرين.
فقوله: ﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ [الأحزاب: ٢٦]؛ فهم من أول مرة لم يجرءوا على أن يقابلوا رسول الله ﷺ والمسلمين، بل فروا فرار الجراذين والحشرات فتحصنوا بالحصون؛ ورعباً وخوفاً من قوة الله التي قوى بها نبيه ﷺ والمؤمنين، وقذف في قلوبهم الرعب، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، وفي رواية: (مسيرة شهرين هكذا وهكذا) يعني: من جميع النواحي مشرقاً ومغرباً وشمالاً وجنوباً.
وهذا لو صدق المسلمون الله في دينهم وعهدهم لنصرهم بالرعب، ولما ذلوا حتى يستبيح بلادهم وأعراضهم وأموالهم إخوان الخنازير والقردة من اليهود أعداء الله.
وقوله: ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ [الأحزاب: ٢٦].
هؤلاء قد قذف فيهم الرعب بين أيديكم، وقتلتم منهم فريقاً وأسرتم منهم فريقاً، كما في غزوة بني قريظة التي سبق أن قصصتها بتفاصيلها، وأعيدها هنا ملخصة.
انتهت غزوة الخندق بفرار قريش وغطفان، بريح سلطها الله عليهم، قلعت خيامهم، وقلبت قدورهم، وأرعبت قلوبهم، وبجيوش من الملائكة زلزلوا بهم الأرض وأرعبوهم وخوفوهم، وإن كان المسلمون والكفار هذه الغزوة لم يتواجهوا بالسلاح، وإنما فر الكفار خائفين كما وصفهم الله، قال تعالى: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا﴾ [الأحزاب: ٢٥].
بعد ذلك اليهود الذين ظاهروا المشركين وناصرهم وذهبوا يجمعونهم من مشرق الجزيرة وغربها، هؤلاء رجع النبي ﷺ من الغزوة وهو يظن أنها قد انتهت وكان في بيت أم سلمة تغسل شعره صلى الله عليه وسلم، وإذا بجبريل يأتيه ويقول: يا رسول الله أوضعت السلاح؟ نحن لم نضع السلاح بعد، اذهب إلى بني قريظة فأدبهم وانتقم منهم لمظاهرتهم للعدو، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يلبس سلاح الحرب وينادي في المؤمنين: أن هلموا، وكان ذلك بعد صلاة الظهر، وقال لهم: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة، فتسابق الصحابة، فبعضهم صلى العصر قبل المغرب في الطريق، والبعض لم يصل إلا بعد العشاء، فلم يعنف هؤلاء ولا هؤلاء، وكان قد جعل ابن أم مكتوم نائبه وأمير المدينة، وأعطى الراية لـ علي بن أبي طالب، وذهب إليهم فحاصرهم، وعندما أرسل علياً للراية عاد إليه علي وقال: يا رسول الله إن شئت لا تحضر، قال: لعلك سمعت شتماً، قال: نعم، قال: إذا رأوني لا يجرءون على شتمي، فجاءهم ﷺ وهم متحصنون في الآفاق والحصون والصياصي، فقال: يا إخوة القردة! يا إخوة الخنازير! ما هذا الذي صنعتم؟ ستلقون جزاء الله بسبب غدركم وخيانتكم، فقالوا له: يا أبا القاسم لم تكن يوماً جهولاً! ولم يجرءوا على أن يبادلوه بذلك، وحاول علي أن يشتمهم من قبل ولكن الزبير قال له: ما بيننا وبين هؤلاء أعظم من الشتيمة، وبقي أربعة أسابيع يحاصرهم إلى أن طالبوا أن يستشيروا أبا لبابة بن عبد المنذر من حلفائهم في الجاهلية.
فجاءهم فالتف عليه الأطفال والنساء فأخذوا يجهشون بالبكاء، والرجال يستعطفونه ويتمسحون به ويسألونه ماذا ترى؟ فقال لهم: ليس إلا الذبح وأشار بأصبعه إلى حلقه ولم ينطق، وشعر بأنه خان الله ورسوله وفر إلى المسجد النبوي وربط نفسه بسارية.
ثم بعد ذلك عرضوا على رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يخرجوا بنسائهم وأطفالهم وبما حملت دوابهم كما فعل مع بني النضير، فأبى عليهم النبي عليه الصلاة والسلام ذلك، وإنما يستسلمون.
وإذا بهم يطلبون أن يحكم عليهم حليفهم في الجاهلية سعد بن معاذ، وكان قد أصيب في غزوة الخندق في أكحله -أي: في العرق الذي في يده المتصل بالقلب- فنزف الدماء فدعا الله تعالى ألا يميته حتى تقر عينه من بني قريظة، فرقى الدم ووقف، وبقي جرح خفيف إلى أن أرسل إليه عليه الصلاة والسلام فجاء على حمار، فقال: قوموا إلى سيدكم -أي قوموا إجلالاً وإكباراً واحتراماً- فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: هؤلاء يريدون أن تكون أنت الحكم فيهم، فأخذ العهود والمواثيق من المهاجرين والأنصار ومن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فالتفت إلى المهاجرين وقال: آلله إن حكمت بحكم لتنفذنه؟ قالوا: اللهم نعم، والتفت إلى الأنصار وقال مثل ذلك، والتفت من الجهة التي فيها النبي عليه الصلاة والسلام وقال: ومن هنا؟ وهو يغض البصر حياء من رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: اللهم نعم، وإذا به يقول: أحكم بقتل الرجال وسبي النساء والأطفال وغنيمة الأموال، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (قد حكمت فيهم بحكم الله ورسوله)، فلما تمكن منهم ربط الأعناق منهم والأيدي، وسيقوا إلى خارج المدينة بأميال، وهم ما بين سبعمائة إلى تسعمائة، فحفرت لهم الأخاديد، وقطعت رءوسهم في عشية يوم نصر الله فيه نبيه ﷺ وأذل عدوه.
وكان الأسرى من الأطفال ومن النساء كذلك ما بين ستمائة إلى سبعمائة، وكان من يشك فيه هل بلغ أو لم يبلغ يكشف عن عانته، إن وجد قد أنبت اعتبر رجلاً فتقطع رأسه، ومن لم ينبت اعتبر طفلاً فيؤسر.
وهكذا حكم الله جل جلاله نبيه في هؤلاء الأعداء، حيث قال ممتناً عليه وعلى أتباعه من المهاجرين والأنصار وعلى المؤمنين إلى يوم القيامة: ﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ [الأحزاب: ٢٦].
أي: هؤلاء الذين ظاهروا وعاونوا الأحزاب على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كان من الله سبحانه إلا أن رد كيدهم في نحورهم، فجاء إليهم ﷺ وحاصرهم فاستسلموا، فقتل رجالهم وسبى نساءهم وأطفالهم، وغنم أموالهم، وكفى الله المؤمنين القتال.