تفسير قوله تعالى: (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم)
قال الله تعالى: ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ [الأحزاب: ٢٧].
أي: دورهم وقصورهم.
سبق في علم الله وأخبر بالفعل الماضي وهو كالحاضر والمتوقع والواقع، (أورثكم أرضهم) أي: سيورثكم أرض أهل الكتاب وأرض المشركين والوثنيين كذلك.
وقوله: ﴿وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا﴾ [الأحزاب: ٢٧].
قال الحسن البصري: أي: لم تدوسوها بأقدامكم ولم تدخلوها بعد، وهي أرض فارس والروم، وقد فعل الله جل جلاله ذلك في أيام الخلفاء الراشدين ابتداء من أبي بكر رضي الله عنه، فقد توفي عليه رضوان الله وجيوشه على أبواب الجابية في أرض الشام، وكانت أرض الروم.
ثم استكمل الفتح بعد ذلك الضرغام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم فتح الشام والعراق، وفتح مصر وإفريقيا، وفتح أرض فارس، فكان الأمر كما ذكر الحسن البصري.
فقوله: ﴿وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا﴾ [الأحزاب: ٢٧]، لم يطأها المسلمون قبل ذلك ولم يدخلوها فاتحين ولم يملكوها يوماً، ولا تعلقت نفوسهم بها حتى جاء الإسلام ووعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم الخندق حيث قال في الضربة الأولى للصخرة: (فتحت لكم أرض الروم، وفي الثانية: فتحت أرض فارس، وفي الثالثة: فتحت أرض اليمن ورأيت قصورها كأنها أنياب الكلاب).
وهكذا تم ذلك بعد النبي عليه الصلاة والسلام في سنوات، فذهبت فارس ولا فارس بعد اليوم، كما قال عليه الصلاة والسلام عندما أرسل كتاباً إلى كسرى ملك فارس يدعوه إلى الإسلام، فأخذته العزة بالإثم فمزق الكتاب وأمر جنديين بأن يأتياه بهذا العربي، أي: أن يأتيا إليه بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فلما بلغ الخبر النبي عليه الصلاة والسلام قال: (مزق الله ملكه، فلا كسرى بعد كسرى، ولا فارس بعد فارس)، ومضت بضع سنوات وإذا الله يسلط عباده المؤمنين في عهد عمر فذهبوا بفارس وذهبوا بكسرى فلم يعد كسرى الفارسي بعد ذلك وإلى اليوم القيامة، ولم تعد فارس وثنية منذ ذلك اليوم وإلى يوم القيامة، فدخل المسلمون أرضاً لم يطئوها من أرض الروم وأرض فارس.
وقال عكرمة مولى ابن عباس: (وأرضاً لم تطئوها): كل أرض سيفتحها المسلمون بعد ذلك.
فقد فتح المسلمون بعد ذلك أرض الفرس والروم، وفتحوا أرض الهند، وفتحوا أرض المغرب، وفتحوا أرض أسبانيا، وفتحوا أرض برتغاليا، وفتحوا كثيراً من أرض أوروبا، وجابت سفنهم البحار كلها في مشارق الأرض ومغاربها، وجابت خيولهم البراري كلها في مشارق الأرض ومغاربها، وجنوبها وشمالها، وكان ذلك تأكيداً وتفسيراً لقوله تعالى: ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ [الأحزاب: ٢٧].
فقوله: ((وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا)) أي: هو القوي جل جلاله، وهو العزيز الذي لا ينال جل جلاله، وهو القادر على كل شيء.
فهؤلاء العرب كانوا يتقاتلون على ناقة أو فرس مدة أربعين سنة، فأعزهم الله بالإسلام فسادوا وحكموا الأرض، وكانوا المعلمين والموجهين والمؤدبين المحكمين بين الخلق، فلما عادوا فبدلوا وغيروا سلط الله عليهم الأعداء من النصارى واليهود الذين هم أذل الخلق وأحقرهم، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد: ١١].
فإن عاد المؤمنون والمسلمون وغيروا ما بأنفسهم من عصيان، وغيروا ما هو واقع في الأمة من كفر بالله ومن جري وراء اليهود والاستسلام لهم، كما هو الحاصل من الحكام الذين أذلوا الأمة الإسلامية وأهانوها، والإسلام منهم بريء ومن أعمالهم، حينها سينطبق علينا قوله تعالى: ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ [الأحزاب: ٢٧].