تفسير قوله تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة)
قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾ [الأحزاب: ٣٤].
قال ربنا لأمهات المؤمنين: (واذكرن) إما من الذكر والتلاوة، وإما من التذكر والاعتبار، وإما أن يذكرن ذلك ويأمرن غيرهن بالمعروف، وينهين عن المنكر، وإما أن يذكرن نعمة الله عليهن بما أولاهن وأكرمهن به، وكل ذلك صالح في تفسير هذه الكلمة.
وقوله: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب: ٣٤].
أي: يا أمهات المؤمنين اذكرن الذي يتلى في بيوتكن ويقرأ من كتاب الله، ومن أوامر الله ونواهيه، ومن العقائد والقصص، من أخبار الأمم السابقة واللاحقة، ومن أخبار الآخرة جنة وناراً، ومن يوم الحساب والعقاب عندما يحيي الله الأمم ويعيد الرمم كما كانت عليه في الحياة الدنيا، وما يضمه القرآن وتجمعه دفتاه.
واذكرن ما يتلى كذلك في بيوتكن من الحكمة، والحكمة هي سنته صلى الله عليه وعلى آله، فالله يأمر نساء رسول الله ﷺ أن يجعلن من هذا البيت الطاهر جامعة ومدرسة يتعلمن فيها ما يوحي الله به من كتابه الكريم على زوجهن عليه الصلاة والسلام، وما يتلى في بيوتهن من سنة رسول الله وحديثه وبيانه، ومن كتاب الله شرحاً وتفسيراً وبياناً، ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤]، فهو ﷺ مكلف بالبيان والشرح والتفسير، مكلف بأن يبين للناس ما نزل إليهم من كتاب، ومن هنا يقول الإمام الشافعي: السنة كلها شرح وبيان لكتاب الله.
والسنة أجمع بياناً وتفسيراً للقرآن، ولا يسع أي مسلم فرداً كان أو جماعة، شعباً كان أو حكومة، إلا أن يلتزم بالقرآن دستوراً، وبالسنة قانوناً وشريعة وبياناً، ومن لم يفعل ذلك لا يكون مسلماً ألبتة.
كما أمر آل بيت النبوة بأن يتعلمن ويدرسن ويحفظن ما يتلى في بيت النبي عليه الصلاة والسلام، من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، من كتابه الخالد الدائم، من كتابه المهيمن على الكتب السابقة، كذلك يتعلمن ويعين الحكمة والبيان من سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومن جمع بين الكتاب والسنة فقد جمع بين خيري الدنيا والآخرة، وجمع بين جميع العلوم والمعارف، علوم الشرع، وعلوم الأمر والنهي والحكم والإدارة والدولة، علوم الدنيا والآخرة، سعادة الدنيا والآخرة.
ومن هنا وجدنا نساء رسول الله ﷺ أمهات المؤمنين بين رواة السنة، فقد روينا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهي عالمة النساء التي كانت أعلم بكثير من الرجال، فلقد روينا عنها أكثر من ألفي حديث.
وكما كانت عالمة محدثة فقد كانت بليغة وخطيبة، وكانت فقيهة، فلقد استنبطت من كتاب الله ومن حديث رسول الله ﷺ ما لو سجل في صحائف وجمع لزاد على سفر ضخم، وفيه فقهها وفهمها واستنباطها واجتهادها، وهو ما أعمل له عملاً في جامعة الملك عبد العزيز في جمع فقه الصحابة ابتداءً من الخلفاء الراشدين إلى أمهات المؤمنين، وقد جمعت من فقهها ما يزيد على مجلد، وأطمع أن يكون ذلك في مجلدين.
قال ابن حزم: يمكن أن يجمع من فقه الصحابة سفر ضخم لكل واحد من سبعة، وسمى السبعة فقال: هم: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وأم المؤمنين عائشة.
فقد ذكر من فقه عائشة ما لو دون وسجل لخرج سفراً ضخماً، أي: مجلدات عديدة.
ونحن نعرف المراجع في ذلك، فلا نكاد نجد تفسيراً يعتني بالأحكام إلا نجد فيه فقه عائشة، وذلك ككتاب الجامع للقرطبي، وكتفسير ابن كثير، وكتفسير البغوي، وغيرهما من التفاسير التي تعتني بالأحكام، ونقلها عن مختلف الأئمة من صحابة وتابعين وأئمة مجتهدين.
ونقل الاستنباط في فقه القرآن والسنة عن أزيد من ثلاثمائة من الصحابة، رجالاً ونساءً، مهاجرين وأنصاراً، ورويت السنة والحديث عما يزيد عن عشرة آلاف إلى اثني عشر ألفاً من الصحابة رضوان الله عليهم، ولكل واحد منهم ترجمة، وقد ترجم لهم على التوالي ابن عبد البر الإمام الأندلسي المالكي، في كتابه (الاستيعاب) في مجلدين، وقد طبع أكثر من مرة، وترجم لهم ابن الأثير الجزري في (أسد الغابة) وهو في خمسة أجزاء، وترجم لهم وهو آخر من ترجم في القرن التاسع الحافظ ابن حجر العسقلاني سيد الحفاظ، وإمام العلماء والمحدثين: إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام وذلك في كتابه (الإصابة) في أربع مجلدات ضخام، أوصل تراجمهم إلى اثني عشر ألف صحابي وزيادة، وذكر روايتهم، وأين توجد، وهو من أعظم كتب الإسلام، ومن أعظم كتب الحافظ رحمه الله وجزاه عن المسلمين خير الجزاء.
إذاً: أمر الله أمهات المؤمنين أن يذكرن ويقرأن ويتعلمن ويعلمن ما يتلى في بيوتهن من كتاب الله، ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد امتثلن الأمر الإلهي والأمر النبوي، وتفاعلن معه وذكرن ودرسن وروين ذلك، فنحن منذ عصر النبوة إلى عصرنا هذا نرويه ويرويه معنا رفاقنا، كما رويناه عن شيوخنا، وهم عن شيوخهم، عن شيوخهم من مشارق الأرض ومغاربها، إلى الأئمة المجتهدين، إلى أتباع الصحابة، إلى الصحابة، إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى جبريل، إلى رب العزة جل جلاله وعلا مقامه.
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾ [الأحزاب: ٣٤] أي: كان لطيفاً بكن، حيث أكرمكن بأن تكن من أزواج رسول الله سيد الخلق والبشر، سيد الجن والإنس والملائكة، حيث شرفكن وأعلى مقامكن، ولطف بكن فجعلكن أمهات المؤمنين، الراويات عن رسول الله ﷺ شريعته الداخلية التي لا يراها سواكن، وهذا ما اختصصن به، فالرجال رووا عن رسول الله ﷺ أعماله خارج بيته، أما عندما يدخل بيته، وعندما ينام في بيته، وعندما يتهجد في بيته، وعندما يعامل زوجاته، وعندما يأمرهن وينهاهن، فمن الذي روى لنا السيرة العطرة الداخلية؟ رواها لنا أمهات المؤمنين، ومن هنا كان فضلهن على المسلمين كبيراً، وهن شيوخنا في الإسلام، شيوخنا في كتاب الله، شيوخنا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.