إبطال التبني في الإسلام
يقول تعالى لنبيه: (وإذا تقول للذي أنعم الله عليه) أي: أنعم الله عليه بالإسلام فخرج من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهداية.
وقوله: (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) أي: أنعمت عليه بالحرية والعتق بعد أن كان عبداً رقيقاً.
وذلك أن رسول عليه الصلاة والسلام عندما تزوج خديجة أم المؤمنين رضوان الله عليها، كان زيد بن حارثة طفلاً رقيقاً لديها، وعندما رآه النبي عليه الصلاة والسلام أعجب بذكائه وفطنته وطاعته ومحبته لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فوهبته خديجة لزوجها عليه الصلاة والسلام قبل الإسلام.
وكان زيد بن حارثة عربياً أخذ أسيراً في إحدى الغزوات، وبيع في أسواق مكة، وإذا بأبيه في يوم من الأيام يأتي ومعه عمه يبحثان عن ولدهما في أسواق وقرى ومدن وصحاري الجزيرة، إلى أن رآه أبوه وعمه وألقي في روعهما أنه ولدهما، فوقفا عليه يسألانه: من أنت يا غلام؟ قال: أنا زيد، فقالا: من أبوك؟ قال: حارثة، قالا: عند من أنت؟ قال: عند محمد بن عبد المطلب، قالا: أرقيق أنت أم حر؟ قال: بل رقيق.
قال أبوه: أنا أبوك وهذا عمك، وضماه إليه يقبلانه ويشمانه شأن الوالد الذي يفارق ولده لسنوات ويصبح عبداً رقيقاً.
وذهبا معه إلى النبي ﷺ فقالا: يا ابن عبد المطلب تكرم علينا أكرمك الله هذا ولدنا، طالما بكت أمه عليه، وطالما حزنا عليه، ونحن الآن وجدناه عندك، وأنت بالخيار بين أن تأخذ ثمنه بما تريد وبين أن تعتقه لله، قال: سلوه إن اختاركم فهو لكم، وإذا بهما يجزمان بأنه لا يترك أباه وعمه ويبقى رقيقاً عند مولاه، فقالا له ذلك، فقال: لا أختار على مولاي محمد أحداً، فعجبا واستغربا وقالا: أتفضل الرق والعبودية على الحرية وعلى أبويك؟! قال: نعم إذا كان مولاي هو محمد فأنا أفضل ذلك.
وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يجازيه ويشكره على ذلك فقال: اشهدوا بأني أرثه ويرثني، وأنه من اليوم ابني، فأصبح يقال له: زيد بن محمد، وأصبح يعرف بابن محمد عليه الصلاة والسلام، وكانت العادة في المتبنى أن يكون كابن الصلب في كل شيء.
في الإرث يرث أباه المتبني، ويرثه أبوه المتبني، ويكون واحداً من الأسرة كالابن من الصلب.
والتبني من عادات وتقاليد العرب كلها، وهذا العمل عادت إليه شعوب ودول من المسلمين، فعصوا أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا ضالين ضلالاً مبيناً.
والرسول ﷺ إنما فعله قبل النبوة والرسالة على عادة قومه، فرسول الله وخاتم الرسل والأنبياء تبني زيداً، وإذا بالله يريد أن يبطل هذه العادة على أنها زور من القول، وعلى أنها لا أصل لها ولا حقيقة ولا صحة، فأراد الله جل جلاله أن يجعل النبي عليه الصلاة والسلام هو أول من يبطل هذا التبني، لا بالقول فقط، بل بالفعل، فيطلق زيد زوجته ويتزوجها رسول الله عليه الصلاة والسلام كأرملة مطلقة لرجل أجنبي لا صلة له به ولا محرمية لا من نسب ولا من صهر.
وكان هذا الأمر شديداً على رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأخبر الله النبي عليه الصلاة والسلام أن زيد بن حارثة سيطلق زوجته زينب بنت جحش وستتزوجها بعده؛ ليكون هذا الزواج هو الإبطال العملي للتبني؛ لأن كل متبنى ليس ولداً حقيقاً، وإنما الولد هو ولد الصلب.
أما غير ذلك فلا حكم له وهو مردود.
فالنبي عليه الصلاة والسلام عندما أخبر بذلك من الله جل جلاله عظم عليه الأمر، وعلم بأن المنافقين والكفار سيكثرون فيه القالة والطعن والشتيمة، سيقولون: طمع في زوجة ولده حتى طلقها له وأخذها هو، فقال الله له: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ﴾ [الأحزاب: ٣٧].
وزينب بنت جحش عندما تزوجت زيد بن حارثة تزوجته تزوج الحر للرقيق، فكانت تتعالى عليه وتتعاظم عليه، وكانت تعتبر نفسها من أعلى الدرجات، لقربها من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأن زيداً ليس إلا رقيقاً ومولى أعتق بعد ذلك، وهو على كل حال مولى بعد عتقه، كما هو معلوم.
فكانت تشتم زيداً وتطيل لسانها عليه، وكانت تهرب من فراشه، فكان زيد يأتي إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ويشتكيها إليه؛ لأنه هو الذي زوجه بها، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول له: (أمسك عليك زوجك) لا تطلقها (واتق الله) فيها فالنساء هكذا.
وكان يسأله: هل رابك منها شيء؟ فقال: معاذ الله يا رسول الله، هي في منتهى الدين، ومنتهى التقوى والصلاح، ولكنني لم أصبر على لسانها وتعاليها وتعاظمها علي.
مع أن زيداً كان ذا شأن كبير، ولعله أفضل عند رسول الله وأحب منها، كان يقال له: حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: محبوب رسول الله، وكان يقال عن ولده أسامة بن زيد: الحب بن الحب، وكان عند رسول الله ﷺ في الدرجة العليا، كما في الصحاح عن النبي عليه الصلاة والسلام أن علياً والعباس سألاه فقالا: (يا رسول الله من أحب أهلك إليك؟ قال: فاطمة، قالا: لسنا نقصد فاطمة، من أحب أهلك إليك من الرجال؟ فقال: أسامة).
قال هذا لعمه العباس ولصهره زوج ابنته وأبي أولاده الحسن والحسين، وقاله لمن انفرد من الصحابة بكرم الله وجهه؛ حيث لم يسجد لصنم قط، هذه كانت رتبة زيد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى عندما ارتفعت البنوة وسمي باسمه زيد بن حارثة كان ذا مكانة خاصة عند رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعندما ولد له ولده أسامة كان يضعه رسول الله ﷺ وهو طفل على فخذه ويمسح أنفه ويقول لـ عائشة وهي ترى ذلك: (لو كان أسامة بنتاً لقرطتها ولقلدتها) أي: لجعلت لها قلادة ولجعلت لها أقراطاً.
إذاً: كانت زينب بنت جحش تتعالى على زيد بن حارثة وتشتمه، كانت تفر من فراشه، فكان يأتي ويشتكي منها لرسول الله عليه الصلاة والسلام فيقول له: (أمسك عليك زوجك لا تطلقها، واتق الله فيها) فعاتب الله نبيه لما قال لمولاه ذلك وهو يعلم بأن الله أخبره بأن زيداً سيطلقها، أي: فدعه يطلقها وأنت ستتزوجها بعده، فلم تقول هذا لشيء تعلمه من قبل؟! وقوله: ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ [الأحزاب: ٣٧].
أي: تخفي في نفسك يا محمد ما الله مبديه، أخفى أن زيد بن حارثة سيطلق زينب بنت جحش ويتزوجها بعده، وأن هذا تنزيل الله وسيكشفه وسيعلنه؛ ليكون رسول الله ﷺ الأسوة لكل من تبنى ولداً؛ ليزول أثر التبني بالقول واللسان، ويبقى الولد هو ولد الصلب وما سوى ذلك فباطل.
أما أبوة الاحترام فلا كلام عليها هنا؛ لأننا ذكرنا أن ابن عباس وزيد بن ثابت قرأا وتليا الآية الكريمة: ((وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم))، فهذه الأبوة أبوة احترام وتعظيم من قبل المسلمين، وأبوة علو ورحمة وعناية ورعاية من قبل رسول الله عليه الصلاة والسلام للمؤمنين، لا الأبوة التي هي للولد من الصلب.
كذلك أمومة أمهات المؤمنين للمسلمين ليست كأمومة الأم من الرحم، ولكنها أمومة احترام تقدير، الأمومة التي بها يحرم زواجهن بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام من الرجال، ومع ذلك حرم الله جل جلاله على المؤمنين رؤيتهن إلا للمحارم المباشرين، بل وحرم عليهن أن يتكلمن وهن من وراء حجاب بلين وتكسر في الصوت كما ذكرنا.
والذي نفاه الله هنا هي الأبوة الحقيقية من النبي عليه الصلاة والسلام لـ زيد، وترك أثرها ومردودها، وذلك بأن يتزوج النبي ﷺ زينب بنت جحش بعد طلاق زيد لها، فقال سبحانه: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: ٣٧]، أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعمت عليه بالحرية وبالمحبة وبالدلال: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ [الأحزاب: ٣٧]، تخفي الزواج بها بعد طلاقه، والله سيبدي ذلك ويظهره: ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ [الأحزاب: ٣٧]، تخاف الناس وتستحي من الناس، والله أحق أن تستحيي منه وأن تخافه وتخشاه وهو الآمر لك.
قالت عائشة: (لو كان رسول الله ﷺ مخفياً شيئاً من القرآن لأخفى هذه الآية)، فالله عاتب نبيه وأنبه بأنك تخشى الناس في إعلان أنك ستتزوج مطلقة زيد الذي زعمت أنه ابنك يوماً وليس كذلك، والله مظهر ذلك ومبديه، وأنت تخشى عشيرتك وقومك وتخاف أعداءك المنافقين أن يقولوا عنك: تزوجت امرأة ولدك، ورغبت في الزواج بامرأة ولدك، هذه الخشية لا محل لها، كان يجب أن تخشى الله الذي أمرك بفعل ذلك، كان يجب أن تخاف الله وتستحيي منه، هذه كانت صورة نازلة وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام كما أخبر عن نفسه قال: (إني لأخشاكم إلى الله، وأكثركم خوفاً منه)، ولكن هذا من باب العتاب والعناية به صلى الله عليه وسلم.
جاءني مرة رجل يطرق بابي وأنا في الساعة الثانية ليلاً وهو يبكي والقرآن بيده ويقول لي عن مثل هذه الآية وعن أمثالها: لقد أكثر الله على نبينا، فقلت له: اسكت يا فضولي، اتق الله في دينك، ألا تقولون في أمثالكم الشامية الدارجة: (ضرب الحبيب زبيب) أي: أن الحبيب مهما ضرب حبيبه بحجر فلن يكون ذلك


الصفحة التالية
Icon