تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم)
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٥٣].
هذه الآية الكريمة هي آية حجاب نساء وبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحجاب المؤمنات من كل لون وفي كل أرض وفي كل عصر، وبهذه الآية تم صراحة تحريم زوجات رسول الله ﷺ والزواج بهن، فكما يقال عنها: آية الحجاب، يقال عنها: عدم إيذاء رسول الله في زواج نسائه بعده، ويقال عنها: آية الدخلاء.
قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ)).
إذا قال الله: ((يا أيها الناس))، فالخطاب يشمل كل بني آدم رجالاً ونساءً، وإذا قال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))، فهو خطاب للمسلمين فقط؛ لا لأن غير المسلمين ليس بمخاطب؛ ولكن لأنه إذا قال الله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))، ففي الأغلب يكون الخطاب في فروع الشريعة، وإذا كان: ((يا أيها الناس))، في أصولها، مثل: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والفروع من الأركان الأخرى: صلاةً، وزكاةً، وصياماً، وحجاً، يخاطب بها كل إنسان، ولكنها لا تصح إلا من المؤمن الذي شهد لله بالوحدانية، ولمحمد بالرسالة وختمها، ولذلك عندما يقول ربنا: ((يا أيها الذين آمنوا))، فلن تقبل الفروع إلا منهم إذا قاموا بها حق القيام.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ﴾ [الأحزاب: ٥٣].
حرم الله على المؤمن أن يدخل بيوت النبي ﷺ وغرفه وعلى نسائه وعياله بغير إذنه، وكان العادة في الجاهلية قبل الإسلام أن يدخل الناس الدور ولا يغلقونها، يبقى باب الدار مفتوحاً فيدخل كل إنسان سواء كان الرجل في البيت أو لم يكن، فبقي هذا زمناً بعد الإسلام إلى أن حرم الله ذلك، وفي الصحيح أن عمر رضي الله عنه قال: (وافقت ربي في ثلاث: قلت لنبي الله عليه الصلاة والسلام: لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزل قوله تعالى: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥]، وقلت: يا رسول الله إنه يدخل بيتك البر والفاجر فلو حجبت نساءك عن الناس، فما كان يجيبني أو يستجيب لي، فنزل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ [الأحزاب: ٥٣] وقلت لنسائه في قصة الغيرة وطلب النفقة وهجره لهن شهراً كاملاً دخلت عليهن فقلت لهن: والله لا تزلن على حالكن حتى يطلقكن أو يبدله الله خيراً منكن، فقالت أم سلمة: يا عمر أما كان لرسول الله أن يعظ نساءه وأن يأمرهن وينهاهن غيرك، فخجل عمر وخرج، فنزل قوله تعالى: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ﴾ [التحريم: ٥]).
والإمام الحافظ العسقلاني له رسالة في موافقات عمر لله في كتابه، فعد منها أربعة عشر قضية، ومنها: قصة أسرى بدر.
فقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ [الأحزاب: ٥٣] كان هذا في شهر ذي القعدة في السنة الخامسة من الهجرة في غزوة الأحزاب ونزول هذه السورة الكريمة.
وقوله: ﴿إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ﴾ [الأحزاب: ٥٣] أي: إلا أن يؤذن لكم في الدخول للطعام، أو إلى اجتماع إن طلبكم لسبب فادخلوا، وإلا فالمسجد هو النادي وهو دار الندوة وهو المجتمع.
فقوله: ﴿إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ﴾ [الأحزاب: ٥٣] من آن يئين إذا أدرك واستوى، أي: لا تدخلوا حتى إذا دعيتم لطعام إلا إذا نضج واستوى وأعد، أما أن تجلسوا عنده الساعات الطوال وتضيقوا عليه، أو تأتوا بلا دعوة تنتظرون نضج الطعام فلا، وهؤلاء اسمهم في اللغة العربية: طفيلية، والآية كذلك يقال عنها: آية التطفيل.
وللإمام الخطيب البغدادي رسالة مطبوعة في التطفيل والمتطفلين ذكر فيها غرائب وعجائب من هذه الآية إلى أحداث في عصر النبوة وبعده إلى القرن الخامس.
وقوله: ﴿إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ﴾ [الأحزاب: ٥٣]، أي: حال كونكم غير منتظرين ولا معدين الأنفس إلى أن تدخلوا قبل نضجه، بل لا تدخلوا إلا بعد النضج، فالله قال للمؤمنين يؤدبهم ويهذبهم ويدافع عن النبي عليه الصلاة والسلام الذي كان أكثر حياءً من العذراء في خدرها، قال: ﴿لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ [الأحزاب: ٥٣]، يعني: يأذن لكم النبي عليه الصلاة والسلام، ﴿إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ﴾ [الأحزاب: ٥٣] أي: غير منتظرين نضجه.
وقوله: ﴿وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا﴾ [الأحزاب: ٥٣] أي: إذا دعيتم لدخول البيت للطعام فادخلوا.
﴿فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ﴾ [الأحزاب: ٥٣] أي: لا تجلسوا بعد الطعام يأنس بعضكم ببعض، وتتذكرون الأحداث والقصص وعلل وهموم أولادكم وأزواجكم وأنتم في بيت رسول الله مثقلين عليه وعلى نسائه.
﴿وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا﴾ [الأحزاب: ٥٣] أي: إذا أكلتم فاخرجوا، هذا أدب مع رسول الله، وأدب الدعوات عند جميع المسلمين، فالجلوس بعد الطعام والحديث قلة أدب وتثقيل على المسلمين، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من دعي فليجب)، عرساً أو غيره، (ولكن إذا دخلتم فخففوا)، أي: خففوا على أهل البيت حتى إذا طعمتم فانتشروا، ﴿وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ﴾ [الأحزاب: ٥٣].
أي: أن دخولكم البيت بغير إذن، ومجيئكم للطعام بلا دعوة، وإتيانكم للطعام قبل نضجه بساعة أو ساعات، وبقاءكم بعد الطعام مدة طويلة أو قصيرة، كل هذا كان يتأذى منه النبي عليه الصلاة والسلام بليغ الإيذاء، قال تعالى: ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ﴾ [الأحزاب: ٥٣]، إذا كان الكلام مع جماعة فالإضافة لاسم الإشارة يكون جماعة: ((إن ذلكم))، أي: يا هؤلاء الجماعة ذلك العمل من الدخول والمكث والانتظار طويلاً، وانتظار النضج والدخول قبله، ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ﴾ [الأحزاب: ٥٣].
أي: كان يتأذى منه، ولكنه كان يستحيي أن يقول لهم: اخرجوا؛ لأن الدار داره، والنبي ﷺ كان سيد الكرماء، وكان كعادة قومه ضرب بهم المثل في الكرم، فكان يصعب عليه أن يقول لهم: اخرجوا عني، فكان يتحمل ذلك، ولكنه كان يتأذى في نفسه الأذى البالغ، ولا يتكلم ولا يشتكي حتى لا يبلغهم ذلك فيؤذيهم.
﴿وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾ [الأحزاب: ٥٣]، أي: الله لا يستحيي أن يعلن الحق، فهو الآمر والناهي جل جلاله، وإن كان النبي له هذا الحق يأمر ويوجب وينهى ويحلل ويحرم بإذن الله وأمر الله، ولكن بما أن الأمر يمسه وفي داره وعلى طعامه كان يجد حياءً من نفسه أن يبعدهم فيقولون: طردنا رسول الله من بيته، وكان ذلك يؤذيه، وقد يفسرون ذلك تفسيراً قبيحاً فيصفونه بالبخل وما إلى ذلك، والنبي ﷺ ضرب به المثل في الكرم، فقد كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، طالما أعطى المائة من الإبل وأعطى أكثر من ذلك وأقل صلى الله عليه وسلم، ولا يكاد يمسك بيده شيئاً.
ونزول هذه الآية في هذا وفي الحجاب، وذلك عندما تزوج النبي عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش الأسدية مطلقة زيد بن حارثة أولم عليها رسول الله عليه الصلاة والسلام باللحم والخبز، فهو عليه الصلاة والسلام عندما أصبح متزوجاً زينب أرسل أنساً وقال له: (ادع لي فلاناً وفلاناً وفلاناً للطعام في البيت لوليمة زينب، وادع كل من وجدته، فدعا جميع من وجده، وطاف في الأسواق فجاء معه بثلاثمائة مدعو، فملئوا الغرف النبوية وملئوا ساحات الدار، وقبل أن يقدم الطعام دعا به فوضع عليه يده، يقول أنس: ولقد كان الطعام قليلاً فوضع عليه يده فأكل هؤلاء الثلاثمائة عشرة عشرة، قال: فوالله عندما رأيته لا أدري هل كان بعدما أكلوا أكثر منه عندما وضعته، أو كان في الأول أكثر، فكل الأواني لم تفرغ من الطعام لا لحماً ولا خبراً) وهذا من معجزات رسول الله عليه الصلاة والسلام المشهور بها، وكان الله يبارك له في كل ما يضع يده عليه من ماء أو طعام.
فعندما أكل الناس من الطعام جلسوا يتحدثون، فتضايق منهم النبي عليه الصلاة والسلام والحجاب لم ينزل بعد، وكانت العروس جالسة في المكان الذي سيدخل فيه الرجال ووجهها إلى الحائط، وبقيت ساعات على هذه الحال.
فالنبي عليه الصلاة والسلام خرج بعد أن انتهت الوليمة ليشعرهم بذلك فيخرجون، يقول أنس:


الصفحة التالية
Icon