تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض)
قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [سبأ: ١].
ابتدأ الله الخلق بالحمد، وختم الدنيا والخلق بالحمد لله، ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [يونس: ١٠]، وكانت السورة التي هي ديباجة كتاب الله، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢]، وهي التي نتلوها ونقرأها وقلنا بفرضيتها كما تؤكد ذلك الأحاديث في جميع الصلوات، فرائضها ونوافلها، وفي كل الحالات جماعات أو فرادى.
وهنا الحمد لله: الحمد الكامل، بجميع أنواعه، الحمد الحق لله، فمهما أوتيت من عافية ومن رزق ومن مال ومن كل شيء إذا جاء على يد العبيد، فالله هو الذي ألهمهم، والله الذي حرك قلوبهم، فهو المحمود على ذلك، وإن كان من آداب الإسلام كما يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله).
ولكن الحمد الكامل، والحمد التام بجميع أنواعه هو لله، نحمده على ما هدانا إليه من دين وإسلام، نحمده على أن جعلنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، نحمده على ما وفقنا إليه من التزام ذلك والرجاء والضراعة إليه أن يحيينا عليه وأن يميتنا عليه، إلى أن نلقاه يوم القيامة مع محمد وصحبه.
نحمده على ما أولانا به من عافية ومن رزق ومسكن، وكسوة، وذرية، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، ومهما قلنا: يبقى فضل الله عظيماً، ولكننا مع ذلك نقول ما علمنا الله أن نقول: الحمد لله، فنحمده على كل حال، ويتأكد ذلك عقب الصلوات، وتجدد النعمة في الذات أو الأخلاق أو الأولاد أو الأرزاق.
وعلمنا الله أن نحمده، وعلى أن له السماوات والأرض، وهو من السماوات يميتنا، ويسيل الأمطار لغياث الأرض ولخصبها، ولإنباتها بما نعيش عليه، ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: ٣٠]، لا يحيا مخلوق بلا ماء، كان إنساناً أو حيواناً أو نباتاً، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ [سبأ: ١].
ونحمد الله على أن الأرض له، أسكننا في أطرافها، نضرب في جوانبها ونسترزق ربنا، نعيش من باطنها بما ينبته من نبات وثمرات، وما يعيش عليها من دواب وحيوانات من أشكال اللحوم وأشكال النعم، فنحن نحمد الله أن السموات والأرض هي له ومن عليها من خلق، الكل ملك له، والكل عبد له، والكل متوقف على رحمته، والكل متوقف على رزقه، فهو المحيي وهو المميت.
﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ﴾ [سبأ: ١]، أي: في يوم القيامة الحمد له وحده، فلم يكن لأحد فيه حمد أو شكر؛ لأن الكل له، ولن يستطيع أحد فعل شيء إلا ما كان من الشفاعة المحمدية -أكرمنا الله بها- وإلا ما كان من شفاعة العلماء والصالحين والأخيار كذلك -أكرمنا الله بها- وهي أيضاً من الله، ولن يشفع أحد إلا بإذنه، فالحمد كله لله، فهو الذي أذن لمن يشفع أن يشفع، ولا يشفع إلا في مؤمن أدى الشهادتين، فالحمد في الدنيا لله: في السموات والأرض، والحمد في الآخرة لله، فالحمد إذاً كله لله بتمامه وأنواعه وأشكاله دنيا وآخرة، ولذلك ينبغي للمسلم كما أوصى رسول الله ﷺ ذلك الأعرابي الذي جاء وقال: (يا رسول الله، قد كثرت علي شرائع الإسلام، فقل لي شيئاً أكتفي به، قال: إن استطعت أن يكون لسانك رطباً بذكر الله فافعل).
ومن أعظم الذكر وأعلاه وأسماه: الحمد لله، الذي امتلأ بها كتاب الله، فهو كما أثنى على نفسه لا نحصي ثناءً عليه.
﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [سبأ: ١] أي: هو الحكيم في كل أعماله، وفي كل أقواله، وفي جميع قدره، والحكمة هي وضع الشيء محله، والله وحده حكيم، ومن يكرمه الله بشيء من ذلك، فهو الحكيم في أمره، الحكيم في نهيه، الحكيم في قدره جل جلاله وعز مقامه، (وهو الحكيم الخبير) الخبير بعباده مؤمنهم وكافرهم، وما يصلح لهم نساءً ورجالاً، كباراً وصغاراً، فمن يصلح له الفقر أفقره، ومن يصلح له الغنى أغناه، ومن تصلح الحياة له أكبره إلى الشيخوخة، ومن يصلح له الموت أماته في الطفولة، فالأمر أمره، فلا يسأل عما يفعل ونحن نسأل، فهو الحكيم بكل أعماله، الخبير بكل خلقه.


الصفحة التالية
Icon