تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة)
قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ: ٣].
كفروا بالقيامة وأنكروها، وكذبوا رسلهم، وأنكروا ما ورد عن الله لرسلهم، فكان جواب الله لنبيه: ﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾ [سبأ: ٣] أي: قل يا رسول الله: بلى، وكلمة بلى تعني نعم بعد الإنكار، فهم أنكروا فكان
ﷺ بلى ستأتي الساعة.
(بلى وربي) أمره الله أن يقسم بربه أن الساعة آتية لا محالة، ((عَالِمِ الْغَيْبِ)) صفة لربي.
وقد ورد القسم على قيام الساعة في ثلاثة مواضع: الموضع الأول: في سورة يونس، والآية: ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ﴾ [يونس: ٥٣] أي: يطلبون نبأك وخبرك أحقٌ يوم القيامة؟ ﴿قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ [يونس: ٥٣]، فهم طلبوا الاستنباء والاستخبار من رسول الله عن القيامة، فقال الله: ﴿قُلْ إِي وَرَبِّي﴾ [يونس: ٥٣] أي: نعم وربي، فأقسم بربه أن يوم القيامة حق لا مين ولا شك فيه.
الموضع الثاني: آيتنا هذه التي في سبأ.
الموضع الثالث: قوله في سورة التغابن: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ﴾ [التغابن: ٧]، والزعم مطية الكذب، فقد زعموا بأنه لا بعث ولا نشور ولا قيامة، قال الله لنبيه: ﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ﴾ [التغابن: ٧]، فأكد ذلك بلام الابتداء، وبنون التوكيد الثقيلة، زيادة على القسم الظاهر، فهي ثلاث آيات في ثلاث سورة كريمات، يأمر الله نبيه فيها أن يقسم به أن القيامة حق، ونحن تبعاً لأمر الله، ولما استجاب إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام كذلك نقسم ونقول للمنكرين الكافرين: بلى وربي لتبعثن، بلى وربي إن يوم الساعة حق.
قوله: ((لَتَأْتِيَنَّكُمْ))، أكد القسم بلام الابتداء، مع التأكيد بنون التوكيد المثقلة.
(عالم الغيب) أي: الذي لا يطلع على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول، وهذا من الغيب الذي أخبر به رسوله، وعلمناه نحن عن رسولنا عليه الصلاة والسلام.
قوله: ﴿لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ: ٣].
قوله: لا يعزب عنه أي: لا يغيب، ولا يغرب، ولا يبعد عنه الاطلاع على خلقه، ولو كان هذا الخلق في وزن ذرة، والذرة هي الهباءة الصغيرة التي لا تكاد ترى إلا بالمجهر، سواء كانت في السماوات أو في الأرض، وفي السموات السبع العلى وما فوقها إلى سدرة المنتهى إلى العرش، إلى الأرضين السبع بحارها وجبالها ووهادها وأعماقها إلا ويعلمها الله جل جلاله، ولا تغيب عنه ولا تبعد.
((وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ)) ولا أصغر من الذرة.
((وَلا أَكْبَرُ)) أكبر من الذرة.
((إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)) علم كل ذلك وغيبه في الكتاب، والكتاب هنا اللوح المحفوظ، واللوح المحفوظ لوحان، لوح من قبل الحق لا يراه إلا الله، ولوح من قبل الملائكة، فما كان من قبل الله لا يراه غيره، قال عنه: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾ [ق: ٢٩]، وما دون فيه لا يغير ولا يبدل، جفت الصحف ورفعت الأقلام.
واللوح الذي من قبل الملائكة، هذا يقع فيه المحو والإثبات، يمحى ما سبق أن كتب فيه الجنين شقياً أو فقيراً أو بائساً، بدعوات والديه، وبالصدقة، وبالضراعة إلى الله، أو بأي سبب من الأسباب، كما جاء في أحاديث كثيرة، وفي كتاب الله، وهو ما قال الله عنه: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: ٣٩].
فاللوح المحفوظ الذي من قبل الله هو الأم، كما نقول: أم الشريعة كتاب الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والسنة النبوية شرح وبيان لأم الكتاب، وهو أيضاً فيما صح عنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، هو المعصوم صلى الله عليه وسلم، وهو الذي إذا قال لا يقول إلا الحق، وإذا غضب لا يغضب إلا للحق، وإذا سر لا يسر إلا للحق، وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب كل ما سمع من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وسمى بعد ذلك ما كتبه: الصادقة، وكان في هذا الكتاب ألفا حديث، لم يضع منها شيء ولله الحمد، وكلها رويت في الكتب الستة، وبقية الصحاح والسنن، فانقطع عن الكتابة يوماً، فانتبه له رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: (ما بالك لا تكتب؟ قال: يا رسول الله! رآني فلان وفلان فقالا لي: أتكتب كل ما يقول رسول الله في الغضب والرضا وهو بشر؟ قال: اكتب فوالله لا يخرج عن هذا إلا حق في الغضب والرضا).
ولذلك كانت حياة رسول الله في جميع سيرته قولاً وفعلاً وعملاً وإقراراً من الشريعة الشارحة والمبينة للقرآن الكريم، ومن هنا قال الله لنا في كتابه في أكثر من آية: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١]، فرسول الله أسوتنا وقدوتنا في غضبه ورضاه، وفي حبه وبغضه، وفي سلمه وحربه، وفي حضوره وغيبته، وفي حضره وسفره، وفي سلامه ومعاركه عليه الصلاة والسلام، وفي كل أحواله.