تفسير قوله تعالى: (أفترى على الله كذباً أم به جنة)
قال تعالى: ﴿أَافْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ﴾ [سبأ: ٨].
ثم عاد هؤلاء الكفرة فقالوا عن نبي الله: ﴿أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾ [سبأ: ٨]، قال الله يجيبهم: ﴿بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ﴾ [سبأ: ٨].
قالوا ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أعلن وبلغ عن الله، والحقيقة أن الله هو الذي قال ذلك، وهو الذي أمر نبيه أن يقسم بربه أننا سنبعث، وبأن الساعة آتية، وأن الحياة الثانية قائمة، فهم عندما يكذبون نبيهم يكونون قد جحدوا ربهم، وجحدوا رسالته ونبأه وكتابه.
((أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ)) أي: أأفترى، فهما همزتان همزة استفهام وهمزة وصل، ولكن حذفت الثانية فبقيت الأولى، ودل على المحذوفة بقاء الأولى، وهو استفهام إنكاري تعجبي، يقولون: هل افترى الكذب، وزعم أنه رسول، وأن ما يقوله هو كلام الله، وأنه نقل عن الله أننا بعد الموت سنعيش حياة جديدة بجسد جديد وجسم جديد؟ فهو لا يخلو إما أن يكون قد اخترع الكذب -وحاشاه من ذلك- أو به جنة: أي: أصابه الجنون، وفقد عقله، فأصبح يقول ما لا يعقل، ويتكلم بما لا يعلم، ذاك قولهم مع أنهم هم الكذبة الفجرة، والمكذب للصادق وهو الكاذب، قالوا ذلك لصغار عقولهم، فعقولهم لم تتسع لدين الله، ولا لأنبياء الله، ولا لرسالات الله، فالذي يكذب نبياً فإنه مكذب لجميع الأنبياء؛ لأن الأنبياء جميعاً ظهروا للناس وقالوا: إننا رسل ربنا إلى الناس جميعاً، وقالوا عن ربهم: إن حياة جديدة ستكون بعد الموت وأننا سنحيا بعد الموت والفناء للحساب والمجازاة، إما إلى جنة وإما إلى نار، فلم يكن هذا خبراً عن رسول الله فقط، ولكنه خبر الله الذي نطق به كتابه، والذي يعتبر أصلاً في جميع الشرائع، فهم لم يتصوروا إلا حالتين، فلم يقولوا الاحتمال الثالث وهو: أن يكون صادقاً، فكفرهم وحقدهم على الرسالات، وبغضهم لسيد البشر صلى الله عليه وسلم، تركهم لا يتصورون إلا صورتين: الكذب، والجنون، فهو إما نطق عن جنة، وإما نطق كاذباً، فكذبهم الله وأخزاهم، ولعنهم وقال: ((بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ)).
(بل) كلمة إضراب عن كلام سابق، أي: اسكتوا عما مضى، وعما هذى به هؤلاء الذين هرفوا بما لم يعرفوا، بل الحقيقة في ذلك ليس هناك كذب، والنبي لا يكذب، وليس هناك جنون، فالنبي من العقلاء، ولكن الواقع هو أن الذين كفروا لا يؤمنون بالآخرة، ((بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ)) هؤلاء حملهم على ذلك عدم إيمانهم باليوم الآخرة.
((بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ)) هم في العذاب لكفرهم، ولقلة أدبهم مع نبي الله عليه الصلاة والسلام ولتكذيبه، هم في العذاب المهين، في جهنم وبئس المصير، خالدين أبداً سرمداً، فهم علاوة على كونهم كذبة فجرة، جزاؤهم العذاب وسيلقونه، وهم في ضلال لقولهم هذا، ضلوا الطريق السوي، وضلوا الحق القائم والواقع، والذي جاءت به جميع الأنبياء منذ آدم أبي البشر، إلى نوح وإبراهيم، وجميع أنبياء بني إسرائيل، إلى خاتم الأنبياء نبينا محمد صلى الله عليه وعليهم جميعاً، ((وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ)) أي: الضلال العميق الذي ليس له أي شبهة، لا من فكر ولا من عقل، فبذلك أصبحوا من أئمة الكفر؛ لإعلامهم ذلك وقولهم للناس هذا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهم من أجل ذلك في العذاب، وفي ضلال بعيد وسحيق وعميق، لا يكاد يدل عليه، لا منطق ولا أية شبهة.


الصفحة التالية
Icon