تفسير قوله تعالى: (فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم)
﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾ [سبأ: ١٦].
وهكذا الله جل جلاله يقص علينا قصص الأمم السابقة وما أكرمهم به وتفضّل عليهم به من أرزاق دارة وهم موحدون مؤمنون، فإذا كفروا النعمة: وكفرانها الشرك بالله وترك الطاعات ومعصية رسل الله فـ ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد: ١١]، فإذا غيروا ما بأنفسهم من طاعة وتوحيد غير الله رحمته ومغفرته ورزقه إلى الغضب وإلى الجوع وإلى الخوف وإلى البلاء في الدنيا والعذاب في الآخرة.
قال تعالى: ﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾ [سبأ: ١٦]، فأعرضوا عن الله وعن شكره وعن طاعته وعن امتثال أوامر أنبيائهم، فعندما أعرضوا أعرض الله عنهم، وعندما نسوا الله نسيهم، وعندما أبوا إلا الجحود والكفران سلبهم الله النعمة، قال تعالى: ((فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ)) وسيل العرم السيل المعروف، والعرم: الشديد القوي، والسيل: المياه الجارية التي لا يكاد يقف في طريقها شيء، وقد أغرق الله تعالى قوم نوح بهذا، وأغرق هؤلاء فقال: ﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾ [سبأ: ١٦]، والعرِم هو من باب إضافة الشيء إلى صفته، أي: الماء العارم، يُقال: شاب عارم، أي: شاب سيئ الخلق، والعرامة: الشدة.
و ((سَيْلَ الْعَرِمِ)) أي: السيل العارم الشديد القوة والضغط وجريان المياه، قال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ﴾ [سبأ: ١٦]، ومعنى ذلك أن هذا السد الذي كان مرتفعاً عشرات القامات ولعله كانت تجري فيه السفن، سلطه الله عز وجل عليهم.
وهذه البلدة كانت طيبة الهواء وطيبة الروائح من الزهور والورود ومن أنواع الفواكه والثمرات، بحيث إن البعوض والبط والحشرات لا تعيش فيها، وقد كان الآتي من الخارج يأتي وفيه قمل، فلا يكاد يدخل هذه الأرض حتى يموت ما عليه من قمل وحشرات، وكانت الجرذان في كبر القطة الصغيرة، فأخذت تنازع القطط التي تريد أكلها، حتى خافت القطط وفرّت فتكاثرت الجرذان وتوحشت وأخذت تحفر السد من تحته، ومن عادة الجرذ أن يحفر في الأرض ومع مرور الأيام إذا بالمياه تنفجر من تحت، وإذا بشدة المياه تحيط بالسد وتخرج وتغرق الدور والبساتين، وتقلع الأشجار، وتصبح الأرض بعد أيام خراباً وكأنها لم تكن يوماً ذات جنان عن اليمين والشمال يأكلون منها أكلاً طيباً، وكانت فيها حياة طيبة رغيدة، ثم غار الماء فإذا بالبلاد يصيبها القحط والجدب والجوع والخوف، ولشدة الجوع أصبح القوي يأكل الضعيف، فلا أمن ولا شبع ولا راحة ولا أشجار، وسيقص الله علينا كيف كانت اليمن ومأرب بهذه المياه وهذا السد.
قال تعالى: ((فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ)) أي: أبدل الله ما كان عن اليمين من الجنان المتصلة يميناً والجنان المتصلة يساراً في جميع البلاد دوراً وبساتين وحدائق وقصوراً وساحات وشوارع وأزقة، وحيثما ذهبت كانت الأشجار عن اليمين والشمال، ((فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ)) أي: أبدل الله جنتيهم الكريمتين الطيبتين الكثيرتي الثمار بجنتين من غير ذلك، ((جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ))، أبدلهم بجنتين عكس تلك الجنتين السابقتين بالمرة، ووصف الله هاتين الجنتين بقوله: ((ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ)) أي: ذواتي مأكول خمط مر تعافه النفس ولا تستطيع ابتلاعه، (وَأَثْلٍ) وهي الطرفاء التي لا يصلح ثمرها ولا يصلح أكلها، فبدلت بالطرفاء التي لا تصلح لشيء مما كان من أشجار وكروم ونخيل وأنواع من الفواكه لا تمل ولا تنتهي.
((وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ)) السدر: هو شجر النبق، ومنه البري ومنه المزروع باليد، وهو معتنى به، وهذا البري نبت بفيضان المياه من السد، ومع ذلك هو شيء قليل وليست شجراً كثيرة فيه، وإنما الكثير ما لا يكاد يؤكل ولا تستسيغه الأفواه؛ وهكذا عندما كفروا النعمة ذهب الله بطيب البلدة وبأشجارها وبنعيمها وبثمارها، فأعرضوا وغيّروا وبدّلوا فغيّر الله ما عنده، ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد: ١١].
قال تعالى: ((فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ))، أي: مر لا يكاد يؤكل ولا يسيغه حلق إنسان، ((وَأَثْلٍ)) الطرفاء، ((وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ)) أي: شيء قليل من السدر البري الذي فيه النبق، والثمر كذلك مر لا يكاد يسيغه الإنسان، وهو بري يأكله الإنسان كما يأكل التبن، لا ماء فيه ولا غذاء.


الصفحة التالية
Icon