تفسير قوله تعالى: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة)
قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ﴾ [سبأ: ١٨] يصف الله هذه البلاد بأنها كانت ذوات قرى متصلة بارزة ظاهرة من أرض اليمن من صنعاء إلى بقية جزيرة العرب وإلى أرض الشام، وهي البلاد التي بارك حواليها بخصبها وبثمارها وبالنعم الدافقة على أهلها، أي: قد كان هذا يوم ذاك، ثم كل من جحد النعمة ولم يشكرها وكفر بالله ولم يتق ويخف الدار الآخرة وعذاب الله يُصاب بما أُصيب به هؤلاء أهل اليمن وأهل سد مأرب الذين أعطاهم الله من الخيرات ما يكاد يشبه بعض ما ذكر الله لنا من جنان الآخرة، ومع ذلك كفروا النعمة وجحدوها بعد أن أكرمهم الله بثلاثة عشر نبياً متواليين، هذا خلف هذا، ليذكروا الجيل بعد الجيل قال تعالى: ((وَجَعَلْنَا)) أي: بين أهل سد مأرب وقوم سبأ ((وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً)) أي: بارزة متصلة واضحة ومعروفة، أي: جعل الله من أرض مأرب وسد مأرب وأرض سبأ من أرض اليمن التي كانت تسمى الأرض السعيدة جعل قراها متصلة بارزة وظاهرة بحيث اتصلت من أرض اليمن إلى القرى التي بارك الله فيها، والقرى التي بارك الله فيها هي قرى أهل الشام، وهم أهل فلسطين والأردن ولبنان وسوريا، فكل هذه أرض الشام، وكلها كانت ذات خصب ونعم دافقة وأشجار وثمار متنوعة، قالوا: وكانت الأشجار ما بين القرية والقرية من القرب بحيث لا يكاد يمر الإنسان قريباً إلا ويرى القرية التي بعدها، قالوا: وكانت المرأة تخرج من القرية إلى القرى المجاورة وعلى رأسها قفة وتمشي تحت أشجار ظليلة في ظلها، فتمشي والفواكه تقع بطبيعتها كما تقع عندما تنضج، فلا تكاد تصل من قرية إلى قرية حتى تكون القفة قد امتلأت بتلك الثمار من كل نوع، ولا تحتاج إلى زاد ولا إلى تمويل بل ولا إلى ركوب، وتقطع القرى بأرجلها من مكان إلى مكان، فالنعم باسطة خيراتها لكل إنسان، وجعل هذه القرى من أرض مأرب ظاهرة بارزة بيّنة، لا يظل فيها الإنسان، تظهر من أول قرية، فكلما ذهب الإنسان رأى القرية الآتية ويرى ما بعدها، وهكذا منذ يخرج من صنعاء إلى أن يصل إلى قرى ومدائن الشام، فكانت أرض الشام كلها وأرض اليمن كلها قرى متصلة، قالوا: وقد كانت آلافاً، وكلها بهذه الخيرات والأرزاق، أشجار متصلة عن اليمين والشمال، ليست من نوع السدر ولا الأثل ولا من تلك الأشجار التي لا ثمر فيها، ولكن كلها أشجار ثمار وفواكه تلذ للآكل، منوعة مشكلة.
قال تعالى: ((وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً)) أي: بارزة بيّنة واضحة يرى الإنسان القرية خلف القرية، بحيث لا يحتاج إلى دليل، فهي تظهر من قريب، وهذا معناه: أنهم كانوا ذوي حضارة كبيرة وعلم بالزرع وبالسدود وباستنباط المياه وبرصف الشوارع والطرق، ومما لا يزال الناس يحلمون به ولم يصلوا إليه حتى في هذا العصر، عصر اليهود والتبرّج والفساد والكفر بكل أنواعه والفواحش والمنكرات والظلم وإراقة الدماء، والذي يسمونه عصر النور والعلم والحضارة، ومن يسميه بذلك ليس إلا جاهلاً لا يعلم ماذا كان عليه العالم الإسلامي من حضارة ومن أمن ومن خيرات دافقة ومن علوم مندثرة بين الكبار والصغار وبين الرجال والنساء.
قال تعالى: ((وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ)) أي: جعل بين كل قرية وقرية قدراً معلوماً معروفاً من الزمن، أي: ليس بين القرية والقرية إلا مسافة قريبة لا يكاد يمضي عليها أكثر من ساعة أو ساعتين على الأرجل، فبين كل ساعة وساعتين وثلاثة قرية، وكلها من هذا النمط، فكلها أشجار وثمار وخيرات دافقة وما تشتهيه النفس من لحم ماشية أو طير أو حيتان أو ما تريد.
قال تعالى: ((وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ)) أي: جعل له قدراً ليس بعيداً ولا متعباً ولا مجهداً.
قال تعالى: ﴿سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ﴾، وهذا أمر بالصيغة، وهو خبر بمعنى الأمر، أي: يقول الله كانوا يسيرون في هذه القرى المتواصلة المتصلة بعضها ببعض، وقد قدر السفر والمشي من قرية إلى قرية بمدة يسيرة لمن يأت من الشام إلى صنعاء من أرض اليمن، أو من يذهب من أرض اليمن إلى أرض الشام، فكانت جزيرة العرب إلى أرض الشام كلها قرى متصلة والسير فيها مقدّر، وكانوا يسيرون الليالي والأيام ذوات العدد، ((آمِنِينَ))، وماذا يريد الإنسان أكثر من الأمن والشبع وأنواع الطعام والشراب والفواكه؟ فقد كانوا يعيشون في جنة على الأرض، إلا أن جنة الآخرة دائمة وجنة الدنيا زائلة، وقد زالت بكفرهم، ولا كفران في جنان الآخرة، فالكافر يكون في السعير وفي جهنم.
وقد كان يقول بعضهم لبعض: سيروا ما شئتم واقطعوا السفر ليالي متتابعة، أي: سواء كان السفر ليلاً أو نهاراً فالطريق عامرة وليست مخوفة، والأمن ضارب أطنابه، فلا يخاف طفل ولا مولى ولا رجل ولا امرأة؛ لأن الخوف لا يكون إلا من جوع جائع أو فقر الفقير أو كفر الكافر، وهم كانوا مؤمنين، كما قال لهم ربهم: ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ [سبأ: ١٥] وكان الرب يغفر لهم بطاعتهم لأنبيائهم وطاعتهم لربهم وعبادتهم له آناء الليل والنهار، كما يأمرهم أنبياؤهم بذلك مع النعم الدافقة، فإذاً لا داعي للخوف، ﴿سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ﴾ [سبأ: ١٨].


الصفحة التالية
Icon