تفسير قوله تعالى: (وهزي إليك بجذع النخلة)
قال تعالى: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ [مريم: ٢٥] تُساقِطْ أو تَسَّاقَطْ، وأصلها: تتساقط، وكلتا القراءتين سبعيتان متواترتان.
والنخلة الحية ذات السعة والتمر لا يعبر عنها بالجذع، ولكن بقدرة الله جعل الله ذلك الجذع نخلة حية ذات تمر وثمر في غير وقته، وجعل الماء تحتها حتى لا تتعب ولا تتكلف وهي نفساء من ساعتها، فتبحث عن الماء وعن الطعام وهي في خلوتها ليس معها أحد إلا الله، فحول الله الجذع إلى نخلة حية تحمل لذيذ التمر وشهيه، وجعل تحتها نهراً جارياً عذباً سلسبيلاً، فقال: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ [مريم: ٢٥] أي: مجنياً يتساقط بين يديك شهي المطعم.
قال تعالى: ﴿فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا﴾ [مريم: ٢٦] أي: كلي من الرطب واشربي من الجدول وقري عيناً ولا تحزني، يقال: فلان قرت عينه، أي: برد دمعها، ويكون ذلك عند الفرح والبشريات، ويقال: سخنت عينه، ولا يكون ذلك إلا عند الأحزان، إذ يكون الدمع ساخناً، فإذا قيل: قرت عينه فهو خبر عن أفراح ومسرات وبشائر، وإذا قيل: سخنت عينه فهو دعاء بالبلاء والامتحان، حتى يتساقط الدمع منه وهو ساخن لحزنه وألمه.
وهنا قال الله لها أو قال جبريل عن الله: ﴿فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا﴾ [مريم: ٢٦] أي: لا تحزني ولا تقلقي، فهذا الطعام والشراب من الله، ومن المعلوم أنه قد مضى معنا في سورة آل عمران أن زكريا زوج أختها كان يدخل عليها المحراب فيجد عندها رزقاً، فيقول لها: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ [آل عمران: ٣٧] فتقول: ﴿هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: ٣٧]، فكان هذا قبل أن يأتيها الوحي، فكانت تأتيها فاكهة الصيف في وقت الشتاء، وفاكهة الشتاء في وقت الصيف كرامة من الله لها ورعاية، وهذا من باب أولى عندما أصبحت نبية أم رسول ونبي من أولي العزم.
﴿فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾ [مريم: ٢٦]؛ لتريح نفسها من كثرة السؤال والجواب، ومن كثرة الفضوليين: من أين لك هذا الوليد؟ وكيف ولدتيه؟ أزنيت يا مريم؟ أيليق هذا بك؟ من أبوه؟ أيليق بك أن تجعلي أباك وأمك موضع سوء وريب عند الناس؟ فقال الله لها: ﴿فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا﴾ [مريم: ٢٦] ومعنى ذلك: أنها لم تمنع من كلام الملائكة، فكانت تكلم جبريل ويكلمها؛ لأنهم يعلمون قصتها وحقيقة ولادتها، ولكن البشر لا يعلمون ذلك، ولن يعلم الكثيرون ما داموا معرضين.
فأمرها الله جل جلاله ألا تخاطب إنسياً قط، وتشير بأنها نذرت لله صوماً ألا تكلم اليوم إنسياً؛ والصوم: هو الإمساك، فيقال: صام عن الطعام، أي: أمسك عنه، وصام عن زيد، أي: أمسك عن مخاطبته، وصام عن الكلام، أي: لم يتكلم، فهي أشارت إليهم بأنها نذرت لله صوماً، وكان ذلك في شريعتها، أما في شريعتنا فإن ذلك لا يجوز.
يروى أن أبا بكر جاءته امرأة ساكتة فكلمها فلم تجب، وألح عليها فلم تجب، ونهرها فلم تجب، فعندما أكثر عليها أخذت تشير فقال لهم: ما بالها؟ قالوا: إنها نذرت الإمساك عن الكلام، فهددها بالتعزير والضرب إن بقيت كذلك فتكلمت، فلا يوجد في شريعة الإسلام الصيام عن القول إلا ما كان عن القول الباطل وقول الزور، كما قال تعالى: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء: ١١٤]، فالكلام الكثير لغو باطل لا خير فيه.
فولدت مريم وهي عند جذع النخلة، وأخذت تهز إليها النخلة فتتساقط رطباًً، وتشرب من الجدول عند رجليها، ومن هنا قال علماؤنا: الرطب خير الطعام للنفساء، كما أن العسل خير الطعام للمرضى، فالله جل جلاله أمرها عن طريق جبريل ألا تنطق ولا تتكلم مهما رأت أحداً من البشر، وتشير بأنها قد نذرت الصيام عن الكلام.
ولكن بعد ذلك حملت وليدها على كتفها: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ﴾ [مريم: ٢٧] جاءت قومها وهي تحمل وليدها، جاءت العابدة التقية الصديقة البكر العذراء التي لا زوج لها، جاءت تحمل وليدها وإذا بالقوم يقومون إليها كالأوباش فقالوا: ﴿قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ [مريم: ٢٧ - ٢٨]، نادوها وهي تحمل الوليد وقالوا لها: يا مريم! لقد جئت شيئاً عظيماً أتيت جرماً وذنباً جليلاً.
قال تعالى: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ﴾ [مريم: ٢٨] أي: لم يكن أبوك فاحشاً ولم يكن سيئاً ولا زانياً، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ [مريم: ٢٨] وكذلك أمك كانت صالحة قانتة لم تكن زانية ولم تكن مسافحة، فمن أين أتيت بهذا البلاء وبهذه الفرية العظيمة؟ قوله: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾ [مريم: ٢٨] زعم قوم وأبعدوا في ذلك أنها أخت هارون أخي موسى نبي الله، فالأخوان نبيان ورسولان: موسى وهارون، وهذا زعم من لم يعرف عن سير وتاريخ الأنبياء شيئاً، فلقد كان ما بين موسى وهارون وما بين أيام مريم القرون السحيقة.
وقال قوم: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾ [مريم: ٢٨] أي: كان فيهم رجل يسمى هارون، وكان يضرب به المثل في صلاحه وتقواه وعبادته، فكانت تشبهه، فأخذوا يهزءون بها ويقولون: ما هذا الوليد الذي أتيت به على كتفك؟ وكلا القولين ليس بصحيح.
والقرآن نزل بلغة العرب، فالعربي يقول للقرشي: يا أخا قريش! أي يا من أنت تنتسب إلى قريش، ويقول للتيمي: يا أخا تيم! ويقول للعربي عامة: يا أخا العرب! كذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ [الإسراء: ٢٧] أي: أن المبذرين كانوا إخوة للشياطين في أعمالهم؛ لأنهم انقلبت حقيقتهم من إنس إلى جن فأصبحوا إخوة لهم من الأب والأم، والشبه يكون في الخير والشر.
فـ مريم عليها السلام معروف عنها أنها ابنة الأنبياء والرسل، وأنها من سلالات موسى وهارون إلى يعقوب فإسحاق فإبراهيم عليهم الصلاة والسلام.
فقوله: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾ [مريم: ٢٨] أي: يا ابنة الأنبياء! يا من تنتسب إلى الصالحين من قومها، ما هذا البلاء الذي أتيت به؟ قال تعالى: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ [مريم: ٢٨]، والبغي: الزانية، وامرأ سوء أي: فاحش سيئ لا يصلح، بمعنى كانت بيئتك صالحة وأبواك صالحان، فمن أين هذا البلاء وهذه الفاحشة؟! قال تعالى: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾ [مريم: ٢٩] أي: لم تجبهم، فقد أمرها الله ألا تكلم اليوم إنسياً، أي: تصوم عن الكلام وتنقطع عن الحديث مع أي إنسان.
فقوله: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾ [مريم: ٢٩] أي: إلى عيسى، وإذا بهم يصيحون: أتهزئين بنا؟ أتطلبين منا مخاطبة الأطفال، ألم يكفك ما أتيت به من فحشاء وبغي؟ وإذا بالمشار إليه عيسى يتكلم، وبذلك كان عيسى سلسلة معجزات وسلسلة غرائب وعجائب منذ أن خرج إلى أن رفع إلى السماء.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ [مريم: ٢٩] إما أن يكون في المهد بجانبها في المكان الشرقي القصي من قومها، وإما أن يكون المهد حضنها، قالوا لها: أتهزئين بنا؟! كيف تطلبين منا أن نكلم صبياً لا يزال في المهد، ومتى كان الصبيان في المهد يتكلمون؟!