تفسير قول تعالى: (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا)
قال الله تعالى: ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [سبأ: ١٩].
لا نزال مع كتاب ربنا وهو يقص علينا قصة سد مأرب، وقصة قوم سبأ وكيف كانوا في رغد من العيش، وكانوا في نعمة شاملة، وكانوا في نعم متضافرة، وكانوا يعيشون بما أكرمهم الله به من أرزاق من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، وكانت قراهم متصلة تُعد ثلاثة آلاف وسبع مائة قرية من أرض اليمن، من مأرب إلى أرض الشام، وبين كل قرية وقرية قُدّر فيها السير، فلا يكاد يقطعون ساعة إلا ويرون قرى ويرون نعماً وثمرات وفواكه، حتى إن المرأة إذا كانت متنقلة بين قرية وقرية يكفي أن تذهب وعلى رأسها مكتل، وإذا بالثمار تتساقط في هذا المكتل ولا تحتاج إلى جمع، ثم تجلس فتأكل مما تشتهيه نفسها، قال ربنا: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ﴾ [سبأ: ١٨] هذه القرى ذات الأشجار المثمرة اليانعة، والمياه المتدفقة من أرض اليمن إلى أرض الشام، وهم في ظلال من الأشجار وفواكه دانية، ولكنهم أعرضوا عن الله وعن طاعته، فكان جزاؤهم جزاء من كفر بعد إيمان، وجحد النعمة بعد إسلام، فأبدلهم الله جنتين ﴿ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾ [سبأ: ١٦]، ثم عادوا فدعوا ربهم كما دعاه اليهود ومشركو الجزيرة عندما كانوا يأكلون من المن والسلوى ونعم الله الدافقة، وبعد أن أكرمهم الله وأنقذهم من فرعون وهامان وقومهما، وإذا بهم يأخذهم البطر ويأخذهم التيه بهذه النعم، فيسألون موسى وهارون أن يُرزقوا من بقلها وقثّائها وفومها وعدسها وبصلها؛ وهكذا انقلب عليهم ما كانوا فيه من النعم إلى قحط وأرض يابسة لا تكاد تُثمر، وأرض جافة لا يكاد يجدون ماء للشرب؛ وهكذا هؤلاء.
وطلبوا كما طلب الكفار ﴿إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ [الأنفال: ٣٢] فأُرسلت، لكن قوم محمد صلى الله عليه وعلى آله أُكرموا بالنبي عليه الصلاة والسلام فلم يُصابوا بسوء مدة وجوده بين أظهرهم، ومدة حياته عليه الصلاة والسلام تكرمة له.
فقال هؤلاء: ((رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)) بطروا النعمة فأرادوا أن تكون هناك مفاوز وقرى بعيدة بعضها عن بعض، فيتزودون لها، ويركبون الرواحل أسابيع وأشهراً، فالله جل جلاله استجاب لهم وكانوا هم الذين ظلموا أنفسهم، فأنهى ما كانوا فيه من نعمة، وسلّط عليهم القحط، وسلّط عليهم من جاء إلى سد مأرب فجعله كأنه لم يغن بالأمس، جعله خراباً يباباً، فخربت جدرانه، وذهبت مياهه، وساقت أمامها جميع مدن اليمن، وجميع شجره وبساتينه، وتفرقوا وتشتتوا في كل موقع كما قال ربنا: ((فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا))، وقرئ في السبع: ((بَعِّدْ)) أي: اجعل بين أسفارنا -أسفار: جمع سفر- مسافات بعيدة، بمعنى: لا نُريد هذا القرب بين هذه القرى، ولكن باعد بينها، وإذا بالله الكريم يجيبهم لما طلبوا بعد أن بطروا النعمة وجحدوها وكفروا بنعمة الله، فضاع سد مأرب، فذهبت المياه، ويبست الأشجار، وذهبت الفواكه، وماتت الدواب والشاء والطير، سواء الداجن أو البري، وإذا بهم لا يجدون طعاماً يُغنيهم ولا شراباً يرويهم، فتشتتوا في أقطار الأرض.
فقوله تعالى: ((وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ)) أي: ظلموها بالكفر والجحود، وظلموها بما طلبوا لأنفسهم من عذاب ومحنة، فاستجاب الله لهم، يقول تعالى: ((فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ)) ذهبوا في أمس الدابر، وانتقلوا من شهرة واسعة إلى أسماء تُذكر، فيسير الناس على ذكرهم وعلى غريب قصصهم ويملئون المجالس بحديثهم، وأنه كان يوماً من الأيام وفي سنة من السنين قوم يقال لهم: قوم سبأ، كان لهم من الخيرات ومن النعم والأرزاق، وكان لهم أنبياء تعددوا وتكاثروا، وإذا بهم في يوم من الأيام رجعوا للكفر والردة، وأضاعوا ما أوتوا من الإيمان والتوحيد، فضاع بضياعهم خيرهم وبلادهم وجعلوا أحاديث.
قال تعالى: ((وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ)) أي: فرّقهم الله تفريقاً، وشتت جمعهم وشملهم، وأصبحوا كدابر الأمس، كأن لم يغنوا فيها يوماً من الأيام، وتشتتت القبائل فذهبت الأزد إلى عمان، والأوس والخزرج إلى المدينة، وغسّان إلى الشام، وخزيمة إلى العراق، وخزاعة إلى تهامة، وهكذا تشتتوا طرائق وأحزاباً ومللاً ونحلاً، فأصبحوا يُضرب بهم المثل، وكل هذه القبائل في أصولها من قوم سبأ، وهو: ابن يشجب بن قحطان.
((فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ)) بهذا الدعاء ((فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ)) انتقلوا من صفوف قائمة، وقبائل حية إلى فناء، ولم يبق إلا ذكرهم على الورق، وفي ألسنة الناس يسمر عليهم بحكايات وقصص.
قال تعالى: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ)) الإشارة لسبأ لما كانوا فيه من نعمة وأمان وعيش رغد وحضارة، ثم انقلب عليهم الأمر عندما جحدوا ربهم وكفروا بدينه وعصوا رسله، فسلب عنهم هذه النعم، ولا يبدّل الله ما بقوم إلا بعد أن يبدّلوا ما بأنفسهم؛ فأصبحوا مثلاً ضربه الله لأهل مكة، ولكفار الجزيرة والعالم إذا هم أبوا وأصروا على الجحود والكفران، وإذا هم صنعوا ذلك يصنع الله بهم ما صنعه في قوم سبأ، يشتتون ويمزّقون، ويصبحون أحاديث، وقد فعل هذا ربنا، فأين فارس؟ وأين الروم؟ وأين دول عاصرناها كانت تُعتبر الدول الأولى في الأرض؟ وإذا بها آبت ورجعت للذل والهوان والفقر والحاجة، واستولى عليها من كانوا تحت حكمها وتحت سُلطانها! فعندما جحد المؤمنون عوقبوا، وعندما أصر الكافرون زاد الله من محنتهم وعذابهم.
فقوله: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ)) أي: لعلامات على قدرة الله جل جلاله، وهو القادر على كل شيء، يرزق ويكرم ويُعطي ويُعز، حتى إذا جحد من أُنعم عليه نعم الله نزعها وسلبها منه، وأعاده إلى الذل والفقر والجوع والحاجة.
قوله: ((صَبَّارٍ شَكُورٍ)) صبّار: صيغة مبالغة، أي: شديد الصبر، يصبر على طاعة الله ويصبر على ترك المنكرات والمعاصي، يُمهل نفسه ويعقلها طاعة لله وبعداً عن الأرجاس.
قوله: ((شَكُورٍ)) أي: كثير الشكر، يشكر الله في كل أحواله بأركانه ولسانه، يشكره مصلياً ويشكره مزكياً وصائماً وحاجاً، يشكره بلسان الحمد لله رب العالمين، فيفرده بالحمد، ومن حُمِدَ إنما هو حمد مجازي، فالله المكرم والمنعم وهو الذي حرّك قلب ذلك العبد الذي قدّم لك خدمة أو قدّم لك إحساناً، فالمشكور هو الله دوماً واستمراراً.
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه -في مسند أحمد - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن كل خير، إذا أصابه خير حمد الله وشكر، وإذا أصابته مصيبة حمد الله وصبر) فهو على كل حال مأجور، يؤجر حتى باللقمة يرفعها إلى في امرأته، ويؤجر بالنفقة على عياله؛ فالمؤمن على كل حال مأجور شاكر للنعمة صابر على البلوى، ولهذا الحديث شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيحي البخاري ومسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجبت للمؤمن هو في خير أبداً إذا أُنعم عليه شكر، وإذا بُلي صبر، وهو في كل حال مأجور مثاب) أو كما قال عليه الصلاة والسلام؛ وهكذا المؤمن يرى أن كل ما يحصل عليه هو من الله، فيفرح لكرمه ولنعمه ويشكر الله عليها، ويصبر على قضاء الله، ويقول: هي كفارات للذنوب ورفع للدرجات، وهكذا، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن ليؤجر حتى في الشوكة يشاكها) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.


الصفحة التالية
Icon