تفسير قوله تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له)
قال تعالى: ﴿وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [سبأ: ٢٣] جل جلاله وعلا مقامه.
يقول تعالى: هؤلاء ليسوا شركاء، ولا يملكون في السماوات والأرض مقدار ذرة، ولا لله حاجة إلى واحد منهم أن يساعده أو يعينه، فالله الغني الغنى المطلق عن كل خلقه، بل هم خلقه وعبيده، وهم المحتاجون والفقراء إليه، ولا يجرؤ أحد أن يشفع عنده، قال تعالى: ((وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)) لأنهم قالوا عن آلهتهم: هم شفعاؤهم عند الله، فلن يكون هذا أبداً، ولن يشفع عند الله لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، إلا بعد إذن الله له بالشفاعة، ولن يجرؤ أحد أن يتكلم بكلمة أو يقول قولاً بين يدي ربه شفاعة في أحد ما لم يأذن الله له، فإذا لم يأذن الله فليس لأحد قدرة ولا إرادة أن يشفع في أحد حتى في نفسه فضلاً عن غيره، والقرآن مليء بهذه المعاني.
وسيد البشر قد ذكر الله له مقاماً محموداً يوم القيامة، وهو يوم الشفاعة العظمى، مع مقامه وسيادته العامة على جميع الخلق، ومع ذلك عندما يريد أن يشفع يخر ساجداً لله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وأدعو الله بمحامد لا أعرفها، فأبقى ساجداً ما شاء الله لي أن أسجد، فيقال لي: ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفّع) إلى تمام الحديث على طوله، وهو متواتر ومعلوم من الدين بالضرورة، ولن يشفع إلا بعد أن يخر لله ساجداً لربه، مستأذناً بالشفاعة إلى أن يؤذن له بعد زمن يطول أو يقصر، إذ إن اليوم في الآخرة كألف سنة مما تعدّون، وهو يحمد الله، ويمجّده، ويوحّده، ويذكره جل جلاله، إلى أن يؤذن له بالشفاعة، فيقال له: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يُسمع لك، واشفع تشفّع.
عند ذلك يشفع في جميع الخلائق ممن مات على التوحيد، أما من مات على الشرك فلا شفاعة، وقد حرّم الله الجنة على الكافرين أبد الآبدين، ويكون الخلق قد اشتد بهم الحال وعظم عليهم الكرب ويذهبون إلى أبينا آدم أبي البشر فيردهم ويقول: نفسي نفسي، نهاني الله أن آكل من الشجرة فعصيت، فيأتون إلى نوح فيقول: نفسي نفسي، وهكذا إلى إبراهيم ثم موسى ثم عيسى فلا يذكر عيسى شيئاً عن نفسه، ولا يقول: نفسي نفسي، ولكنه يقول لهم: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيذهب الناس جميعاً من جميع الخلائق والأمم، وهو اليوم الذي يبعثه الله فيه مقاماً محموداً تحمده فيه الخلائق كلهم صلى الله عليه وسلم، وذاك معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧] ليس لعالم فقط، وليس للأمة المحمدية فقط، ليس لمن عاصره ومن جاء بعده من أمته، ولكن للأمم السابقة من أمة آدم إلى أمته صلى الله عليه وسلم، فهو شفيع كل الخلائق عليه الصلاة والسلام، ومع مقامه هذا لن يشفع إلا بعد أن يأذن الله له، وهذا معنى قوله تعالى: ((وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)) فكيف بمن زعم المشركون أنهم سيكونون لهم شفعاء عند الله، قالوا ذلك عن أوثانهم وأصنامهم، وهيهات هيهات، إذا كان نبي الله كذلك فمن دونه من الأنبياء والصالحين لن يشفعوا إلا بعد أن يأذن الله لهم، فكيف بمن لا وجه له، ولا كرامة له، ولن يجد ريح الجنة أبداً من المعبودين، أو من المشركين، أو ممن هو في الأصل جماد أو حيوان أو شيء من خلق الله؟! قال تعالى: ((حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ)) بعض المفسّرين قالوا: (فُزِّعَ) أي: زال الفزع، والتفزيع: زوال الفزع، كالتمريض: زوال المرض، فقالوا: هذا يكون عند الوحي الإلهي إلى جبريل عليه السلام، إذ يوحي الله لجبريل فيبلّغ جبريل أهل السماء السابعة والسادسة والخامسة إلى السماء الدنيا ومن يكون نبياً.
وقد انقطع الوحي ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام فلم يكن بينهما نبي ولا رسول، وما أرسل النبي عليه الصلاة والسلام بعد ذهاب عيسى ورفعه للسماء إلا بعد ستمائة وخمسين عاماً؛ فعندما يأتي الوحي من الله يغشى على النبي ﷺ ويسمع صوتاً كصلصال الجرس أي: الحديد يضرب بعضه ببعض، وقد فسّر ذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين، وهو أشد عليه من غيره، فقد كان يتصبب عرقاً في اليوم الشاتي البارد كأيامنا هذه في أرض الحجاز.
ولكن أكثر المفسرين قالوا: الآية ليست في سياقه ولا تقتضيه، بل تفسير الآية كما قال ابن عباس وغيره: إن هؤلاء عندما يفزّع عن قلوبهم يزول الفزع وهم في حال الاحتضار للموت، وذلك بعد أن يُصبح العلم بالغيب علم مشاهدة وحضور، فكل ما أخبر به الأنبياء من الإيمان بالغيب بعد الموت وعند الغرغرة بالروح يُصبح إيماناً بالمشاهدة وهيهات، فقد قال الله تعالى: ﴿لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾ [الأنعام: ١٥٨].
فالملائكة عندما تأتي لقبض الأرواح يقولون للكافر: ((مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ))؟ وذلك بعد أن تزول غيبوبته ويزول فزعه، ((قَالُوا الْحَقَّ)) أي: قال هؤلاء الكفرة: قال الله الحق.
وهكذا اعترفوا بعد أن أصبح الاعتراف بالنسبة لهم لا يفيد؛ ولذلك فإن النبي كان كثيراً ما يقول: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وشبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شُغلك، وغناك قبل فقرك) وآخرها الحياة قبل الموت، فما دام الإنسان في حياته لم يكسب خيراً، أي: لم يؤمن بالله ولا برسوله، ولم يؤمن بما جاء عن الله في كتابه، فإنه لن يعترف إلا عند الموت عند وصول الروح إلى الحلقوم، ومن باب أولى بعد الموت ولن ينفعه ذلك، فهو إذ ذاك يعترف للملائكة بأن الله قال الحق فيما أرسل به رسله وأنزل به كتبه، ولكن هذا الاعتراف لا يزيدهم إلا حسرة وتوجعاً وندماً؛ لأنه كما قال أهل المعرفة بالآداب والرقائق: إن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، فمن لم ينتهز حياته في طاعة الله وعبادته يوشك إذا مات أن يكون سيف الحياة قد قطعه غير مؤمن بالله ولا برسوله، ولن يفيده اعترافه وإقراره بعد الموت.
فقوله تعالى: ((قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ)) أي: قالت الملائكة لهؤلاء الكفار: ماذا قال ربكم؟ فيجيبون: ((قَالُوا الْحَقَّ)) أي: قالوا: إن الله قال الحق، ((وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)) فالله جل جلاله هو العلي المنزّه عن كل نقص، وهو المتصل بكل كمال والعلي على خلقه العظيم جل جلاله، وهو الكبير المتعال فلا أكبر منه جل جلاله، فالكون خلقه، فهو أكبر من الطغاة والجبابرة والملوك؛ لأنه خالقهم والكل عبد له؛ ولذلك فإن شعار المؤمن: الله أكبر، وبها نستفتح الأذان للإعلام بدخول الوقت، وبها نستفتح الإقامة للدخول في الصلاة، وبها نشغل حركات الصلاة عند الدخول فيها: عند الركوع والرفع من الركوع، وعند الهوي للسجود إلى آخر أعمال الصلاة، وهي شعار الذاكر في حجه والملبي في حجه، وهكذا فالله الكبير المتعال العلي على خلقه العلي عن حاجتهم وعن عونهم، فكل الخلق عبيد لله فقراء إليه، وهو الغني الغنى المطلق.