تفسير قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماوات والأرض)
قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ: ٢٤].
أي: قل لهؤلاء: من الذي يرزقكم من السماء؟ ومن يدبر أمر الملائكة بالخيرات والرحمات والأرزاق؟ ومن يرزقكم في الأرض؟ فمن ينبت شجرها وثمرها؟ ومن يغذي دوابها وطيرها؟ ومن يغذيكم لتعيشوا مدة إلى أجل مسمى؟ فالله قال لنبيه: ((قُلِ اللَّهُ)) ولم ينتظر جوابهم، وإلا فهم معترفون بذلك، ولكنهم يشركون بالله في الألوهية، ويجعلون معه شركاء من الملائكة والجن والأحجار والأخشاب والدواب، ومن عبادة النفس وتأليه هواها، وهم يعترفون لله برزقه ولا يعترفون له بتوحيد الألوهية، وهم بذلك قد ضلوا، والإيمان وحده لا يقبل التجزئة، ومن آمن بشيء وكفر بشيء فهو كافر لا محالة، ومن آمن ببعض شرائع الإسلام وكفر ببعضها فهو مشرك كامل ولا ينفعه الإيمان بالبعض دون البعض، قال تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: ٨٥]، فهذا جزاء من يؤمن بالبعض، ويكفر بالبعض فلم يفدهم اعترافهم بأن الله الرازق من السماء والأرض، وبأنهم آمنوا بربوبيته وأشركوا معه بعض خلقه ممن هم أعجز عن دفع الضر عن أنفسهم فكيف لهم أن ينفعوا غيرهم أو يضروا!! قال تعالى: ((قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ)) أي: قل: الله الرازق من السماوات والرازق في الأرض، فيرزق عباده من السماء بالأمطار، ومن الأرض بالإنبات، فهو الرازق من السماء بالتدبير وهو على عرشه جل جلاله قد استوى يدبّر الأمر، فالله الرازق في السماء والرازق في الأرض وليس لأحد أن يرزق أحداً من الخلق إذا لم يرد الله رزقه؛ وهذا الذي يرزق لم يرزق أحداً بما عنده، وإنما بخلق الله وبرزق الله وبإمداد الله، أما أنه يأتي بشيء من عنده! فهيهات هيهات، فقد تحدى الله الخلق وعجزوا عن أن يخلقوا ذبابة، قال تعالى: ﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج: ٧٣] أي: ضعف الوثنيون المشركون وضعف من يعبدونهم من أوثان وشركاء زعموهم آلهة من دون الله.
قال تعالى: ((وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ)) أي: كلهم، قال: ((لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) أي: قل يا رسول الله! لهؤلاء الكفار: نحن وإياكم إما على هداية أو على ضلالة، وليست ((أَوْ)) هذه للشك ولكنها للتفصيل، أي: نحن الذين على هداية فلقد أتينا بأدلة العقول على وحدانية الله وقدرته وخلقه لما تراه العين من خلقه للكون وتحس به، وأعظم شيء في الوجود الروح؛ ولذلك طالما تساءل الناس في الجاهلية والإسلام في مكة والمدينة وفي عصرنا هذا إلى يوم القيامة عن الروح، قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٨٥] وهذا السؤال لا يزال قائماً إلى اليوم ورغم زعم المعاصرين أنهم تحضّروا وتعلّموا لو سألتهم: ما الروح؟ يقولون: لا ندري! ومن فسّر الروح بأنها حركات فهذا أثر الروح وليست الروح، فلكل من الإنسان والدواب والملائكة والجنة والنبات روح، نرى الأرض إذا جاء الشتاء يبس ورقها وأصبحت الأرض بلقعاً، فإذا جاء الغيث ونزل المطر وأحيا الله ما يريد ترى الأرض اهتزت وربت وإذا بها تنبت من كل نوع من الفواكه أشكالاً، ومن الخضار أشكالاً، ومن الثمار أشكالاً، ومما تأكله الناس والأنعام أشكالاً، فمن الذي خلق فيها هذه الحياة؟ وما الحياة؟ هذا ما عجز عنه البشر وسيبقون عاجزين؛ لأن هذا من علم الله الذي انفرد به، وقد قال عليه الصلاة والسلام في دعواته: (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) فقد استأثر الله بأسماء له وعلوم عنده لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ [لقمان: ٢٧] فلو أن سبعة أبحر ملأها حبراً ومداداً وجاء لشجر الأرض فذرأه أقلاماً تكتب وتستمد المداد من هذه الأبحر فتفنى الأبحر وتنتهي الأشجار وعلم الله لا ينتهي.
يروى أن موسى سئل: من أعلم منك؟ قال: لا أحد، فأدّبه الله تعالى وربّاه وقال: بلى عبدنا الخضر، فسأل الاجتماع به فكان من قصته ما قصه الله علينا في سورة الكهف، ومغزى القصة ما قاله الخضر لموسى وهو يحاوره، إذ جاء طائر صغير وأخذ قطرة من البحر فقال: يا موسى! ما علمي وعلمك أمام علم الله إلا كهذه القطرة يأخذها هذا الطائر من البحر، فأين أدعياء العلم والمعرفة؟ هيهات هيهات فكلنا ذوو أرواح إلا أن يشاء الله غير ذلك، ومع ذلك لا نعلم نحن ولا غيرنا ولا كل حي في الوجود عن هذه الروح التي ينطق بها وينظر بها ويسمع بها ويحس بها ويعقل بها ما هي؟ هذا ما انفرد الله به، ويكفي هذه المعجزة الإلهية على أن نعلم أن الله هو القادر وهو الواحد، وأن الله استأثر الروح في علمه وقدرته دون جميع خلقه.
وزعموا اليوم أنهم وصلوا إلى ما وصلوا إليه ولم يصنعوا شيئاً، فقد صنعوا طائرة من خشب والخشب خلق الله، والماء خلق الله، والمسامير من الحديد خلق الله، والعقول التي صنعت ذلك خلق الله، ولو ذهب الله بعقولهم وبما خلقه لما استطاعوا صنع شيء، ولو ذهب الله بتلك الأشجار والأخشاب وذلك الحديد وتلك المياه التي يقال عنها البترول -وستذهب إنما هي مؤقتة- فستقف الطائرات والدبابات والمصانع، وقد قال أحد العارفين: إذا أراد أن يظهر فضله عليه خلق ونسب إليه، ومن فعل ما يقربه إلى الله كان فضلاً من الله، ومن فعل ما يبعده عن الله كان ابتلاء من الله، قال تعالى: ((وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)).
أما النبي وحزبه فهم على هدى، وقد بيّنوا ذلك بالأدلة العقلية القاطعة، وأما الشيطان وحزبه فهم في ضلال مبين واضح ظاهر لا دليل لهم عليه البتة، وهذا يشبه قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: ١ - ٦].
فقوله تعالى: ((وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) أي: نحن الذين على الهدى بالأدلة العقلية القاطعة، وأنتم الذين على ضلال بالأدلة القاطعة، فاقبلوا أو لا تقبلوا، قال تعالى: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ﴾ [النور: ٥٤]، وقال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ [البقرة: ٢٧٢].
فليست الهداية وظيفة الأنبياء وإنما وظيفة الأنبياء -ومن باب أولى ورثتهم من العلماء- البلاغ، وأما الهداية فكما قال الله لنبيه سيد الخلق: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: ٢٧٢] وقال تعالى: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: ٥٦] فهؤلاء أقارب أحباب كانوا للنبي عليه الصلاة والسلام وطمع النبي ﷺ أن يكونوا مؤمنين فما كانوا؛ لأن الله لم يرد لهم الهداية، فالله قال لنبيه عليه الصلاة والسلام ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٣] أي: لعلك مهلك نفسك على أنهم لم يؤمنوا ولكن الإيمان والهداية بيد الله، والعلم وحده لا يكفي، فإبليس كان أعلم العلماء في عصره فلم يفده علمه، فالتوفيق والهداية من الله؛ ولذلك فإن الأنبياء أنفسهم يعبدون ربهم ويحرصون على العبادة الليل والنهار، ومع ذلك يدعون ربهم ويلجئون إليه، هؤلاء وهم معصومون، فكيف بغير المعصوم! يفعل ما يفعل وهو لا يدري عن الخاتمة فالعبرة بالخاتمة، نسأل الله حسن الختام لنا ولكم جميعاً.