تفسير قوله تعالى: (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى)
قال تعالى: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ [سبأ: ٣٧]: أي: يا هؤلاء أين ذهبت عنكم عقولكم، فهذه أجسام الحمير فيها عقول العصافير.
هؤلاء كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم، استدلوا بأدلة الحيوانات والقردة والببغاوات فقالوا: نحن أعظم الناس لأننا أكثر أموالاً، فمعنى ذلك أن من لا مال له فهو حقير.
مر النبي عليه الصلاة والسلام بين أصحابه وهم أفضل الناس بعد الرسل، فرأى رجلاً ضعيف الشكل يلبس ثياباً رثة، عليه آثار الحاجة والمسكنة والفقر، فسألهم النبي عليه الصلاة والسلام: (ما تقولون في هذا؟ فقالوا: يا رسول الله، هذا حري إذا خطب لم يزوج، وإذا دعي الناس لا يدعى، وإذا سئل الناس لا يسأل، وإذا غاب لا يذكر ولا يفتقد.
فسكت.
ثم مر بعده رجل آخر ذو قامة شامخة ولباس ظاهر جميل، فقال لهم: ما تقولون في هذا؟ فقالوا له: هذا حري إذا خطب أن يزوج، وإذا غاب افتقد، وإذا دعا الناس الناس دعي معهم، وإذا قال سمع له، فقال لهم نبي الله عليه الصلاة والسلام: إن ذاك خير من ملء الأرض من مثل هذا).
وهكذا هو، فليس التقى بالمال، ولا بالجمال، ولا بالحسب والنسب، وليس مقام الخلق عند الله بالآباء والأجداد وما يملكه الناس، ولكن ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: ١٣].
لأن الكل عبد الله، هو الذي اختار الأبيض واختار الأسود، وقد يكون الأسود أشرف بكثير من البيض، وهو الذي أغنى وأفقر، وهو الذي أعطى ومنع، وكل ذلك اختبار، ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥].
كان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وقد عذب سنتين من ملوك بني العباس من العذاب ما لا يحتمله أولو القوة، فصبر وتحمل وكان يعذب ويضرب حتى يغيب عن عقله وإحساسه.
ثم بعد ذلك مات الخليفة المأمون وجاء بعده أخوه المعتصم ثم مات وجاء الواثق، وإذا به يفك قيده عن رجله بيده؛ لأنه سأله وقال له: يا أحمد قل ما يقولون وإن فعلت والله لأفكن الأغلال والقيود عن رجلك بيدي، قال: يا أمير المؤمنين سل هؤلاء -زعماء المعتزلة أهل البدعة- عن هذا الذي يطلبونني فيه أقاله الله في كتابه؟ فسألهم فقالوا له: لا.
قال له: سلهم هل ذكر هذا رسول الله؟ قالوا: لا، قال: شيء لم يذكره الله في كتابه ولا رسوله في سنته، ألا يسعهم ما وسع رسول الله! وإذا بالخليفة ينتبه عندما سمع أن هؤلاء يقولون ما لم يذكره الله ولا رسوله، فقال: إذاً ففيم تعذبونه؟ وفيم تسألونه؟ فقام وحل القيود بيده، وأغدق عليه من النعم، وعرض عليه الكثير من المناصب، وقدم له المنح، ولكن أحمد عندما عرض الواثق عليه ذلك وقال له: اطلب ما شئت، قال: أسألك ألا تبحث عني، وألا تعطيني وألا تهدي إلي.
ومع ذلك أخذ الواثق يرسل له، ولكنه يقول له: الشرط بيني وبينك ألا تفعل، فذهب الواثق وتقرب لأولاده فولاهم قضاة وأغدق عليهم بالنعم.
وفي يوم من الأيام يجوع أحمد وكان البرد شديداً، فطلب الطعام فجاءوا بالخبز فسألهم أحمد: من أين هذا؟ قالوا: أخذنا الخميرة وجففنا الخبز من بيت ولدك صالح، وكان صالح قد نصبوه قاضياً، قال: والله لن آكل هذا الطعام قط.
فذهبوا بهذا الخبز، وأرادوا أن يهدوه، قال لهم: إن تصدقتم به فقولوا: رفض أحمد أن يأكله، فخرجوا يتصدقون فكل من قالوا له: امتنع أحمد عن أكله وأخذه، قال: لا حاجة لنا بطعام لم يأكله أحمد! وإذا به يسألهم: ماذا صنعتم به؟ قالوا: رفضه الفقراء ورفض الأغنياء، قال: فما صنعتم؟ قالوا: رميناه في التراب، قال: عليه من اليوم ألا يأكل طعاماً فيه شبهة، جمعه الملوك من الشبهة والحرام.
وصدق الله العظيم ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥] يقول: صبرت على الشر وها أنا الآن يقبل علي الخير وهو ابتلاء أشد من ابتلاء الشر.
وهذا مشاهد، فقد يصبر إنسان على ابتلاء الشر، ويكون رجلاً شجاعاً صبوراً، ولا يصبر عن المناصب الكبيرة، والمال الوافر، والجاه والسلطان إلا من حفظه ربه، وقليل ما هم.
قال تعالى: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى﴾ [سبأ: ٣٧]: أي: أموالكم وأولادكم لا تجعل لكم عندنا زلفى وقرباً، أي: لن تقربكم إلينا، ولن تنالوا الجنة بذلك، فذاك شيء والطاعة والتقوى شيء.
قوله: ﴿إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ [سبأ: ٣٧]: أي: ليس المال بالمقرب عندنا ولا الأولاد.
يعلمنا الله ويأمرنا أن لا تكون صلتنا ببعضنا لأجل المال والجاه والأولاد، ولكن لأجل الخير والصلاح والإحسان، ولأجل العلم، وأكرمنا على الله أتقانا، والتقوى الطاعة، ولكن إذا كان من بين هؤلاء الذين لهم أموال وأولاد وكانوا يحسنون إلى الفقراء فلهم عند الله جزاء الضعف.
فقوله: ﴿إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [سبأ: ٣٧] أي: إلا من آمن بالله وعمل صالحاً فأطاع الله بصلواته، وبصيامه وبزكاته، وبحج بيت الله الحرام، وترك المحارم كلها، وفعل من الخيرات ما يطيقه كما قال: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوه).
﴿فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ﴾ [سبأ: ٣٧] جزاؤهم في الدنيا ومكافأتهم، وفي الآخرة يضاعف الله لهم الحسنات، فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله.
وهكذا من آمن وعمل صالحاً وثبت على ذلك، إن كان يتمول فلا مانع بشرط أن لا يفسده المال، وإذا شاء أن يكون له أولاد بالعشرات فلا مانع على أن يعلم أولاده دين ربهم، والخلق الفاضل والطاعة لله ولرسوله، والبعد عن الشبهات والمنكرات بكل أنواعها، إن كان كذلك فسواء كان فقيراً أو غنياً فمنزلة الإنسان عند الله بحسب تقواه.
قوله: ﴿وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ [سبأ: ٣٧]: الغرفات: جمع غرفة، وهذه الغرفات هي منازل الجنة، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما رواه ابن أبي حاتم وأحمد وأصحاب السنن قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، ويرى باطنها من ظاهرها.
قيل: يا رسول الله، ولمن هذه الغرفات؟ قال: لمن أطاب الكلام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام).
وهكذا سمع الحاضرون أن الطريق لامتلاك هذه الغرفات أن يكون الإنسان طيب القول، لطيف العشرة والمعشر، لا يقول الخنا ولا يكون كذاباً ولا صخاباً بالأسواق، وتكون مائدته مفتوحة للغني والفقير، وللقريب والبعيد.
وأدام صيام الفرض وزاد من النوافل الإثنين والخميس مثلاً، أو اليوم الثالث عشر واليوم الرابع واليوم الخامس عشر، وقام يصلي بالليل والناس نيام، فمن فعل ذلك فهو المستحق لهذه الغرفات، والسكنى فيها.
﴿بِمَا عَمِلُوا﴾ [سبأ: ٣٧] أي: بسبب عملهم، فالباء سببية.
﴿وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ [سبأ: ٣٧]: أي: يأمنون غضب الله وعذاب الله، والدخول في النار، فهم في الجنة قد أمنوا الغضب والعذاب، وهم في لذة من العيش فيما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.