تفسير قوله تعالى: (وكذب الذين من قبلهم)
قال تعالى: ﴿وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ [سبأ: ٤٥].
قال الله لنبيه: قل لهؤلاء سخاف العقول الضائعين التائهين الضالين الذين لم نرسل إليهم قبلك نبياً ولم ننزل عليهم كتاباً: إنهم إنما اخترعوا أكاذيب وأضاليل من عبادة الأحجار والملائكة والجن، ولم يأت بذلك رسول ولم ينزل به كتاب.
أي: لقد كذب قبلهم أمم لم يبلغوا هم معشار ما آتيناهم من قوة، ومن سلطان، ومن جمال، ومن حضارة.
قالوا: والمعشار هو عشر العشر، أي: لم تكن حضارة العرب ولا جزيرة العرب ولا قوة العرب ولا غنى العرب في مثل قوة أولئك الأمم، حتى قيل: ولا عشر العشر من تلك القوة في الغنى والحضارة.
﴿وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ﴾ [سبأ: ٤٥] أي: ما بلغ كفار مكة والجزيرة العربية ومن جاء بعدهم نفس الشيء، وإنما جعل العرب مثالاً؛ لأن النبي أرسل فيهم ومنهم، ثم عمم الله رسالته على جميع البشر.
﴿وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ﴾ [سبأ: ٤٥] ما بلغ هؤلاء ولم يبلغوا إلى معشار ما آتينا الأمم السابقة من قوة الأبدان وقوة الشعوب والدول والحضارة كثمود وعاد، فقد ذكروا في التاريخ أنهم كانوا من القوة والسلطان والحضارة بمكان بليغ.
وكما قص الله علينا في نفس السورة قصة سبأ وما بلغوا من حضارة وغنىً ورفاهية، فكذبوا الرسل إلا قليل منهم، وكذبوا كتب الله.
قوله: ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ [سبأ: ٤٥] استفهام تقريعي توبيخي، أي: ذكرهم وقل لهم: هذه الأمم القوية الغنية عندما كذبوا رسلي كيف كان نكيري؟
و ﷺ كان نكير الله -أي إنكاره عليهم وعقوبته لهم- غرقاً وزلزلة الأرض، وقلب عاليها سافلها، وكان لعنة مستمرة أبدية، وغير ذلك.
تلك الأمم كانوا أكثر حضارة وأكثر غنىً وأكثر جمعاً وأكثر أفراداً وأكثر شعوباً، ولم يبلغ العرب معشار ما آتاهم الله من هذه المعاني، فكذبوا رسل الله، والكتب الموحى بها إليهم، فعندما كذبوهم عاقبهم الله، وقد قص الله هذا في كتابه في غير ما سورة من السور، فذكرهم بذلك يا محمد كيف كان؟ وهكذا ينذر الله هؤلاء بأنهم إذا لم يعودوا إلى الله ويؤمنوا بمحمد رسول الله سيقع عليهم ما وقع على الأمم من قبلهم، فلم يعجزنا أولئك على قوتهم وسلطانهم وكثرة عددهم، أفتعجزوننا أنتم، وأنتم شراذم مشتتة في هذه الصحاري القاحلة التي لا تكاد تنبت؟!