تفسير قوله تعالى: (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي)
قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾ [سبأ: ٥٠].
قل لهؤلاء: أتقولون عني قد ضللت، تقولون: عني صبأت، تقولون قد تركت ديانتكم، فإن كان ما تقولونه حقاً، فإنما أضل على نفسي، وهذا لا يتجاوزني ولا يمسكم بحال، ولكن: ﴿وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي﴾ [سبأ: ٥٠] فالنفوس لا تدعو إلا إلى شر، ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ [يوسف: ٥٣].
ولو كانت الهداية والرسالة من نفسي لكنت رسولاً من اليوم الذي ولدت فيه، وأنتم تعلمون أني عشت بينكم أربعين عاماً، فما ادعيت نبوءة ولا طلبت رسالة، ولم يخطر لي ذلك ببال، ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ﴾ [هود: ٤٩].
فلم يكن النبي كاتباً وكان أمياً، ولم يكن يعلم ديناً ولم يكن يعلم عن الله شيئاً، ولكن الفطرة تنبذ تلك الأصنام فلم يسجد لها يوماً ولم يعبدها يوماً، ولكنه كان ينتظر، وإلى الأيام الأخيرة من السنة الأربعين أخذ يفكر ويخلو بنفسه في غار حراء، وتقول له نفسه التي فطرت على الخير من أول يوم: أهذا الكون كان بلا مكون؟ أو وجد بغير موجد؟ هذه الأصنام وهي كلها حجارة وجمادات لا تضر ولا تنفع أهي التي خلقتني وخلقت غيري؟ لا يمكن ذلك، ذلك باطل وهراء! وهكذا تهيأت نفسه لقبول الحق ودعوة الناس إليه، فجاءه جبريل فعلمه وقال له بعد أن ضمه إليه مرة ومرة ومرة: اقرأ، وهكذا ابتدأ الوحي وتتابع.
فقوله: ﴿وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي﴾ [سبأ: ٥٠] إن كان هادياً مهدياً فذلك بسبب هداية ربه له، وبما أنزل عليه من كتاب كريم، وبما أوحى إليه من نبوءة ورسالة، فكانت الهداية من الله، وكانت النبوءة والرسالة من الله، فأنتم الضالون حقاً، وأنتم المبطلون حقاً، وأنتم الذين تعبدون أوثاناً ما أنزل الله بها من سلطان، إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم.
قوله: ﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾ [سبأ: ٥٠]، أي: إن ربي يسمع تحاورنا ويسمع كلام كل خلقه، فيسمع كلام الملائكة والجن والإنس، ويسمع من هتف بلا إله إلا الله، ومن هتف بعبادة الأوثان، ويسمع الآن ويعلم تحاورنا، وهو جل جلاله قريب من عباده ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: ٦٠].
فربنا سميع لكل شيء وهو أقرب إليكم من حبل الوريد، وقد جاء أن النبي ﷺ كان حاجاً وقائداً لقوافل الحجيج في حجة الوداع، فأخذ الحجيج يرفعون أصواتهم بالتلبية: لبيك اللهم لبيك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أربعوا على أنفسكم إن الله سميع قريب) فهو سميع الدعاء قريب ممن دعاه، فلا حاجة إلى رفع الأصوات بما يتجاوز الحد، ولا حاجة لرفع الأصوات لدرجة أن تصل للأصوات المنكرة.