تفسير قوله تعالى: (وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد)
عندما يحدث ذلك ﴿وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [سبأ: ٥٢]: أي: بعد أن بعثوا وخرجوا من قبورهم للعرض على الله، أخذوا يقولون ما أنكروه في دار الدنيا، ﴿وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ﴾ [سبأ: ٥٢] أي: آمنا بالله، وآمنا برسل الله، وآمنا بكتب الله، وهيهات فقد فات الوقت الذي يقبل فيه الإيمان، وقد كان الإيمان إيمان غيب.
فقد خرجوا من دار التكليف ودار الابتلاء إلى الدار التي ليس فيها إلا عذاب الكافرين ونعمة الله للمؤمنين، وما سوى ذلك فالآخرة ليست دار عبادة ولا دار تكليف، وكانوا قد طولبوا في دار الدنيا وهم أحياء بالإيمان بالله صباح مساء، وحيث ذهبوا في أرض الله يجدون من الدعاة إلى الله من يدعوهم للتوحيد، فيأبون إلا الكفران ويصرون على الجحود، وأما الآن فهيهات فالوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
﴿وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [سبأ: ٥٢] التناوش: التناول والأخذ، ومنه ناوش جيش جيشاً، وتناوش الخصوم، أي: نال بعضهم من بعض بالسيوف أو أنواع السلاح، أو بالنية، أو حتى باللسان.
فقوله: ﴿وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ﴾ [سبأ: ٥٢] أي: أنى لهم تناول الإيمان وتعاطيه، ﴿مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [سبأ: ٥٢] من الآخرة إلى الدنيا.
وأين الدنيا؟ ذهبت الدنيا وأصبحت قاعاً صفصفاً، لا وجود لها، فقد فنيت مع ما فني، وكل ما وجد بعد ذلك فهو من خلق جديد.
﴿وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ﴾ [سبأ: ٥٢] كيف لهم التناوش؟ وكيف لهم التناول؟ وكيف سيتناولون الإيمان وهم في مكان بعيد؟ بعيدين عن دار الدنيا، وبعيدين عن دار التكليف، وبعيدين عن دعوات الأنبياء والرسل، فبالموت انتهى كل شيء وطويت الصحف، فمن مات على الشرك بقي مشركاً وخلد في النار، ومن مات على الإيمان بقي موحداً وخلد في الجنة، وأما أن يؤمن بعد ذلك فهيهات هيهات.
﴿وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [سبأ: ٥٢] آمنوا بعد أن رأوا ما كانوا يكفرون به رأي العين، فأخذوا يقولون: آمنا بمحمد رسولاً، وآمنا بالقرآن إماماً، وآمنا بالله واحداً.