تفسير قوله تعالى: (وقد كفروا به من قبل)
قال تعالى: ﴿وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [سبأ: ٥٣].
﴿وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ﴾ [سبأ: ٥٣] حال كونهم جاءوا للآخرة وهم كافرون برسل ربهم، كافرون بكتاب ربهم، كافرون بكل النبوءات والرسالات، لأن من يكفر برسول واحد فقد كفر بكل الرسل؛ لأن الكفر بالرسول كفر بالوحي، ومن كفر بالوحي كفر بالكل.
ولذلك فنحن ولله الحمد كما نؤمن بنبينا وهو خاتم الأنبياء نؤمن بمن سبقه من الأنبياء المذكورين في كتاب الله وعددهم أربعة وعشرون نبياً، فقد آمنا بهم تفصيلاً، فآمنا بآدم ونوح وإبراهيم وجميع سلالته من الأنبياء: إسماعيل وإسحاق، ومن بعده يعقوب، وبولده يوسف وبكل سلالته من الأنبياء الذين ذكر الله أسماءهم إلى عيسى وهو آخر أنبياء بني إسرائيل.
ولكن غيرنا قد كفروا بنبينا، وكفر اليهود بعيسى، وكفر النصارى بمحمد، فكان الجميع كفرة جاحدين، وحرم الله الجنة على الكافرين، وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (والله لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي).
فأولئك الأنبياء لو أدركوا حياة رسول الله لكان واجباً عليهم أن يؤمنوا برسالته ويكونوا من أتباعه، ويكون لهم بذلك الشرف، وعيسى الذي هو خاتم الأنبياء من بني إسرائيل لا يزال حياً في السماء الدنيا، وسينزل إلى الأرض في آخر الزمان على دين محمد صلى الله عليه وسلم، يصلي صلاة المسلمين، ويحج حج المسلمين، ويصلي مؤتماً بإمام المسلمين، ويموت على ذلك؛ ولذلك اعتبر صاحباً من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام.
﴿وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ﴾ [سبأ: ٥٣] آمنوا بالآخرة بعد فوات الأوان حين جاءوا كفرة بالله وبكل مقدسات الرسل والأنبياء والكتب، فلم ينفعهم ذلك.
قوله: ﴿وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [سبأ: ٥٣] أي: كانوا يقذفون بالغيب بمعنى: يرجمون بالظن، ويهرفون بما لا يعرفون، ويقولون ما لا يعلمون، ويقولون ما خطر ببالهم من كل هفوة صلعاء لم ينزل الله بها سلطاناً، وهؤلاء قذفوا بالغيب وكفروا بشيء غائب عنهم.
فقالوا عن القرآن الكريم وهو كلام الله إنه كلام محمد، وقالوا عن النبي عليه الصلاة والسلام الذي جاء بالأدلة العقلية القاطعة على أنه رسول من عند الله؛ قالوا عنه كاذب، وقالوا ساحر، وقالوا كاهن ومجنون، وحاشاه من كل ذلك، فقذفوا بالغيب ورجموا بالظن، وقد أتاهم الله بأدلة واضحة وبراهين بينة فما زادهم ذلك إلا طغياناً وكفراً.
﴿وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [سبأ: ٥٣] أي: من عقلية بعيدة عن الحق، ومن أنفس بعيدة عن الله، ومن عقائد زائغة لا دليل عليها من كتاب سماوي ولا من برهان عقلي، وإنما هي ترهات وأباطيل أوحى لهم بها الشيطان، فذكروا ذلك وكرروه وأعادوه إعادة الببغاوات والقردة.
وهكذا كفار عصرنا ومنافقوه رجعوا للكفر القديم، وهم الرجعيون، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) فنفس التعبير أطلقه عليهم، وقال عن المسلمين إنهم المجددون؛ قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها)؛ ولذلك يعتبر العلماء المجتهدون مجددين، وقد جددوا في الإسلام.
جددوا من الفهوم ومن العقائد ما عادوا فيه إلى كتاب الله البين وإلى الحكمة النبوية، وهي السنة الواضحة، وأزالوا ما علق في الأذهان من إسرائيليات ومن ضلالات ومن بواطل، ولا يتبعون في ذلك إلا الكتاب والسنة، فإذا سمعوا علماً أو قرءوا كتاباً إذا لم يكن عليه دليل من الله وبرهان من سنة وقبول من عقل سليم لا يقبلونه بحال، فالكتب كالناس فيها الغث والسمين.
ولذلك فإن من يدعي العلم وهو ضال مضل، فلا صلاة ولا زكاة ولا حج، وهو مرتكب لأنواع الذنوب والمعاصي والكبائر والمنكرات فهو إلى الجهل أقرب، وعلمه علم جهالة وضلال، وقد كان إبليس يوم طرد من الجنة أعلم الناس، ومع ذلك لم يوصله علمه إلا إلى النار؛ لأنه لم يع ذلك ولم يتفهمه جيداً ولم يصل إلى قلبه وعقيدته، وهكذا كل من آمن بشيء عن غير دليل ولا برهان.


الصفحة التالية
Icon