تفسير قوله تعالى: (فاختلف الأحزاب من بينهم)
قال تعالى: ﴿فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [مريم: ٣٧].
مع هذا الذي أعلنه عيسى في بني إسرائيل من أتباع التوراة والإنجيل فقد اختلفوا، ولذلك فإن النصارى يقولون عن التوراة: العهد القديم، وعن الإنجيل: العهد الجديد، فلا تزال التوراة بالنسبة لهم غير منسوبة، والإنجيل مؤكد.
ومن هنا نعلم أن النصارى كانوا يهوداً أولاً ثم صاروا نصارى، فزادوا على فساد اليهودية وخزعبلاتها، وحرفوا كتاب الله الإنجيل، وقد جمعوا بين الشرين كما جمعوا بين الكفرين.
قال تعالى: ﴿فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ﴾ [مريم: ٣٧] أي: اختلف قوم عيسى إلى أحزاب وطوائف ومذاهب، فكانت النصرانية موضع خلاف عند المتمسكين بها والعابدين على أساسها، فشكل قسطنطين وهو من كبار ملوكهم مؤتمراً ليخرج منه بشيء خاص يدعو إليه جميع النصارى، فاجتمعت أحزاب النصارى كلها، فقال بعضهم: عيسى هو الله، وقد قص الله علينا ذلك في كتابه، وقال قوم: هو إله وابن إله، وقال قوم: هو ثالث ثلاثة، وقد كذبوا جميعاً وأفكوا، حاشى لله من هذا القول، فاختلفوا إلى طرائق قدد كفراً منهم وجحوداً.
قال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [مريم: ٣٧] أي: كفروا بما أنزل الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وأنه كمثل آدم خلقه الله من تراب، ثم قال له: كن فكان، فكان عيسى فرعاً من آدم، فكما خلق آدم بلا أب ولا أم خلق عيسى من أم بلا أب، وخلق حواء من ضلع آدم.
فأحزاب النصارى كفروا بما أنزل الله، وأن عيسى عبد الله ونبيه، وابن الصديقة مريم، وأن الله واحد لا شريك له، ولا يليق أن يكون له ثان جل جلاله وعلا مقامه.
فقوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [مريم: ٣٧] أي: ويل للكافرين بالحق وبالوحدانية، والويل: نهر من قيح في النار، ومعناه: يا مصيبتهم، ويا بلاءهم يوم يدخلون النار فيكون شرابهم من قيح جهنم، ويخلدون فيها أبداً سرمداً إذا هم ماتوا على الشرك والوثنية.
واليوم العظيم: هو يوم القيامة، يوم العرض على الله، ويوم الحساب يوم يكون فيه قوم إلى الجنة وقوم إلى السعير، ويوم يعرض الناس على ربهم في يوم كألف سنة مما تعدون، ويكون اليوم عظيماً شديداً يشتد فيه العرق على المعروضين على الله جل جلاله، فالبعض يصل عرقه إلى كعبيه، والبعض إلى ساقيه، والبعض إلى ركبتيه، والبعض إلى ثدييه، والبعض يلجمه العرق إلجاماًَ.
ويكون في هذا اليوم من ميزة المؤذنين أن تكون أعناقهم طويلة، فمهما بلغهم العرق فإنه يبقى الرأس وما فيه من حواس بمنجى من الاختناق بماء العرق، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة)، ومن لم يعلم هذا لا يعلم معنى الحديث، فكونهم دعاةً إلى الله وإلى عبادته ويؤذنون لدخول الوقت أكرموا بذلك.


الصفحة التالية
Icon