تفسير قوله تعالى: (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض)
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا﴾ [فاطر: ٣٩].
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ﴾ [فاطر: ٣٩] خلائف: جمع خليفة، خلفنا من سبقنا من الآباء والأجداد والأجيال السابقة، وهكذا يذهب الجيل ويأتي الآخر، ومع ذلك فالجيل المتأخر لا يأخذ العبرة ولا الدرس ولا الحكمة من الجيل السابق، وكان عليه أن يتخذ العبرة ويتأمل ما هو الذي كسبه وربحه من كفره غير الخزي والذل والهوان، فإنه إن أدرك ذلك فلن يفعل فعله، ومن كان أبوه أو من يعلمه صالحاً فيجب أن يتخذه أسوة وقدوة، وهكذا.
فهذا توجيه رباني للاستفادة من تجارب من مضى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ﴾ [فاطر: ٣٩] ومعناه: خلفنا من سبقنا من الأفراد والجماعات، فأطفالنا خلفاؤنا، ونحن خلفاء آبائنا، وآباؤنا خلفاء آبائهم، فكل من جاء بعدك يعتبر خلفاً لك، وخليفة لك، ورثك في هذه الدنيا بالحياة، وقد يكون قريباً فيرث بيتك ويرث مالك، ويرث اسمك، ولربما شاركك في هذا الاسم في الحياة حيث يقال لك: آل فلان، فيقال عنهم كذلك: آل فلان، ومن ما يفيد الاستخلاف أيضاً: أنه جعلكم خلفاء الماضين، تمرون عليهم بالليل وبالنهار فترون آثارهم وتتساءلون: أين من بنى وشيد؟ أين من حكم الدنيا؟ أين من قال: أنا ربكم الأعلى؟ تلك بيوتهم خاوية تعوي فيها الذئاب وكأنهم لم يكونوا، لم يصحبهم إلا العمل الصالح، ومن لم يكن له عمل صالح صحبته اللعنة وصحبه الخزي، ولعذاب الله يوم العرض عليه أشد مما هو فيه، فنحن عندما نخلف من سبقنا من الأجيال السابقة والأمم السالفة يجب أن نعتبر بحالهم.
وهنا نلمس فائدة التاريخ وفي ذلك الإشارة إلى العناية بالتاريخ، ولذا قص الله علينا الكثير من تاريخ الأمم السابقة، والأنبياء السابقين، وما جرى لهم من خير أو شر، فتعلم ذلك يفيد الإنسان الخبرة والعبرة والموعظة، فإن كان خيراً اتبعه، وإن كان شراً تعوذ بالله منه وابتعد عنه، ولذلك عندما يقول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ﴾ [فاطر: ٣٩].
أي: هناك من سبقكم ممن قبلكم فلستم بدعاً ولم تنفردوا في الوجود، بل سبقتم في الحياة، فآمن من آمن وسعد في الدنيا وسعادته، في الآخرة أتم وأكمل وأشمل.
قوله: ﴿فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ [فاطر: ٣٩]، أي: فالذي كفر فنتيجة كفره عليه، وعذاب الكفر عائد عليه لا على غيره، فكل محاسب بما صنع، ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: ١٦٤].
﴿فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ [فاطر: ٣٩]، عليه عقابه ومهانته وذله وهوانه، لن يعذب معه سواه، إلا إذا كان شريكاً لذلك السوى في عمل هذا الكفر والدعوة له.
﴿وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا﴾ [فاطر: ٣٩]، أي: كفر الكافر مهما طال، ومهما صمد عليه صاحبه وأصر عليه فلن يزيده ذلك عند ربه إلا الغضب والمقت والخزي واللعنة الدائمة.
فالكفر مهما طال، ومهما استطال، ومهما عاش عليه من عاش، فرداً كان أو أمة، لن يزيده كفره عند ربه إلا مقتاً، والمقت: أشد الخزي، وأكثره وأبلغه، ولن يلحق الخزي إلا به، فكفره لن يزيده إلا مقتاً ولعنة وغضباً.
﴿وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا﴾ [فاطر: ٣٩].
فمهما طال كفرهم زاد في خسرانهم، خسرانهم للجنات والنعيم والرحمة والشفاعة، وهكذا دواليك، ولذلك كما أن الجنة درجات، فإن النار دركات، فمنهم من هو على ضحضاح يغلي منه دماغه، ومنهم من هو في قعر جهنم: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النساء: ١٤٥]، أي: في آخر دركة، وهي دركات سحيقة، جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في بعد قعرها أنه قال: (إن أحدكم ليقول الكلمة لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في قعر جهنم سبعين خريفاً)، أي: سبعين عاماً، وليس في العام إلا خريف واحد.
إن أحد المستهترين يقول وهو لا يدري ما يقول، وقد يقول كلمة يريد بها المزاح والدعابة وإذا به ارتد وكفر وخرج عن أمر الله ودين الله، فيهوي بها ويسقط، ويظل ساقطاً مدة سبعين عاماً إلى أن يصل إلى قعر النار، ولا يصل إلا عند تمام مرور سبعين عاماً، وهكذا هؤلاء لن يزيدهم كفرهم إلا خساراً، وقد يكون كفرهم لأول مرة، فيكونون به في ضحضاح من النار، ثم يزيد إلى أن يكونوا في قعر جهنم.