تفسير قوله تعالى: (استكباراً في الأرض ومكر السيئ)
قال تعالى: ﴿اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ﴾ [فاطر: ٤٣]، قوله: (استكباراً) بدل عن النفور، أي: أنهم فعلوا ذلك عندما جاءهم النذير فاستكبروا على رسول الله أن يؤمنوا به، واستكبروا على الله أن يكونوا عباداً له، فكانوا عبدة للشيطان ومع ذلك لم يخرجوا عن عبادة الله مكرهين أو راضين، ولكن المكره وهو عبد رغم أنفه له النار، وله العذاب وله الخزي من الله.
والعبد الراضي بعبوديته تكون عبوديته شرفاً له، وحرية له واستوجبت له الرحمة والرضا من الله ودخول الجنان.
قوله: ﴿وَمَكْرَ السَّيِّئِ﴾ [فاطر: ٤٣].
المكر: التحايل في الباطل، والتحايل في الضلال وظهوره، أو التحايل في الفساد والإفساد والصد عن الله ودينه ورسله، قال ربنا: ﴿وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر: ٤٣].
يحيق: يحيط، أي: لا يحيط مكر الماكر، ولا غدرة من يحاول أن يغدر وأن ينفر إلا بمن حاكه ودبره، فهم قد نكثوا العهد، وحنثوا في الأيمان، وتحايلوا بأن يشتموا النبي عليه الصلاة والسلام مكذبين جاحدين برسالته وبالكتاب المنزل إليه، فالله هددهم وأنذرهم وأخبر بحقيقة من الحقائق فأصبحت مثلاً بعد ذلك بين الناس.
﴿وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر: ٤٣]، فمن حفر حفرة وقع فيها، ومن نصب لأخيه شبكة سقط فيها، وهكذا هؤلاء حين أرادوا أن يمكروا بالنبي عليه الصلاة والسلام، واجتمعوا في دار ندوتهم يتواطئون ويتآمرون أيخرجونه من مكة؟ أيقتلونه؟ أيسجنونه؟ وهم يمكرون، فكانت النتيجة أنهم مكروا بأنفسهم فمكر الله بهم.
﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: ٣٠].
فأوقعهم الله في يد من أرادوا أن يمكروا به، وسقطوا في اليد العادلة يد المصطفى صلى الله عليه وسلم، فانتصر عليهم نصراً عزيزاً مؤزراً ودخل مكة فاتحاً، فأخذهم إليه وجمعهم بين يديه كما يجمع الصائد صيده في شبكة، وأخذ يتهددهم ويقول: ماذا ترون يا معاشر قريش أني فاعل بكم؟ وذهب ﷺ إلى الحرم ودخل الكعبة فوجد فيها ثلاثمائة وستين صنماً، وكان بيده قوس فأخذ يشير إلى كل صنم ويقول: ﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: ٨١]، وهكذا بددت تلك الأصنام واختفت تحت الكعبة، ولعلهم في هذه الحفريات قد وجدوا بعض ذلك، وتمنى ضال من ضلال مصر المنسوبين للعلم وللأدب وللكتابة أن يحفر عن هذه الأصنام ليحتفظ بها على أنها من الآثار الضخمة.
فهي آثار بالنسبة للذين يحنون إلى ذكر الوثنية وذكر الأصنام وذكر عبادة الشركاء وهكذا أماني المشركين، وأماني الضالين، يحنون إلى الكفر القديم والشرك القديم ليحولوا الناس إليه ويحيطوا به، فكان عاقبة مكر هؤلاء أن أحاط بهم، وكانت الحفرة التي أرادوا حفرها لنبي الله عليه الصلاة والسلام هي الحفرة التي سقطوا فيها فأصبحت مكة دار الإسلام من ذلك اليوم، وصدر أمر الله جل جلاله الذي لا يرد بأن لا يدخلها كافر بعد ذلك اليوم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: ٢٨].
فأخبر الله عن المشركين أنهم عين النجاسة، وكما أن النجاسة لا يليق بالمسلم المصلي أن تكون مكان سجوده، أو أن تكون على ثيابه، أو أن تكون على بدنه، فإن مكة حرم وهي أم القرى ومحل البيت الحرام، ومسقط رأس الرسول ﷺ ومنزل الوحي الأول، فيها مناسك الحج الواجبة، فوجب على كل إنسان أن يحج إليها مرة في العمر، يأتي إليها منسلخاً عن المحيط والمخيط، لا فرق بين صعلوك ولا ملك، ولا غني ولا فقير بإحرام أشبه بالأكفان، حاسر الرأس في نعال كأنه حاف، وهو يدعو ويقول: لبيك اللهم لبيك، ومنذ ذلك اليوم ومكة معقل الإسلام، وإن أخذوا يحاولون أن يحاربوا رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى أن هاجموه في عقر داره بعد أن هاجر للمدينة المنورة فكانت معارك أحد، وكانت معارك الأحزاب، وقد خرج منها جميعها ﷺ المظفر العزيز المنتصر.
ثم كانت القاضية وكانت الفاصلة غزوة بدر، كتب الله فيها لنبيه النصر العزيز المؤزر فقتل من زعمائهم ثلاثة وسبعين وأسر ثلاثة وسبعين، وما رفعوا رأساً بعد ذلك، وكما قال ربنا: ﴿وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر: ٤٣].
وقد حاق بهم، وأحاط بهم، فأصبحوا بين شريد وطريد وميت هالك، ومنهم من جر إلى الجنة بالسلاسل، فآمن وأسلم بعد ذلك فحسن إسلامه فكان كمن جر إلى الجنة بالسلاسل، جر أسيراً ثم بعد ذلك اهتدى وحسن إسلامه وقال: لا إله إلا الله وكانت سبب توبته، والإسلام يجب ما قبله.
ثم قال تعالى: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ [فاطر: ٤٣].
يقول الله عنهم في استفهام إنكاري توبيخي تقريعي: (فهل ينظرون إلا سنة الأولين) أي: هل يصبرون على كفرهم وشركهم إلى أن يأخذهم الله إليه أخذ عزيز مقتدر.
فالأمم السابقة الذين أبوا إلا الكفر والشرك قد أحاطت بهم سيئاتهم، وحاق بهم مكرهم فذهبوا بين غريق، وبين ممسوخ، وبين مقتول، وبين من خسفت به الأرض، وبين من رجم من السماء بأنواع من الرجم ومن حجارة السماء، فهل هؤلاء ينتظرون مثل ذلك، فإن كان الأمر كذلك فلينتظروا فيما هم منتظرون، ولكل وقت ولكل عمل مدة وأجل مسمى.
قوله: ﴿إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ﴾ [فاطر: ٤٣]، أي: طريقة الأولين ممن سبقهم من الأمم والشعوب التي أبت إلا الكفر والجحود، وأبت إلى التمرد على أنبيائها، ثم أخبر سبحانه أن سنته لا تتبدل فقال: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [فاطر: ٤٣].
فسنة الله في المحسن والمسيء أن للمحسن الإحسان، وللمؤمن الجنة، وللمسيء النار وغضب الله، والخزي الدائم، فلن تجد لسنة الله تبديلاً، فسنة الله في خلقه -في المؤمنين والكافرين- لن تبدل ولن تغير، فلن يدخل كافر الجنة رحمة به، وقد حرم الله الجنة على الكافرين، ولن يخلد في النار مؤمن موحد، فسنة الله في الإحسان إلى المحسنين وعقوبة الكافرين كما فعل بالأولين من الشعوب والأمم السابقة كذلك، فهو الله الأول بلا بداية، الآخر بلا نهاية، فمن تبع سنة أولئك ومن فعل فعلهم ستكون سنة الله فيه البطش، والغضب واللعن، والتدمير كأولئك الكافرين السابقين، وقد أكد الله ثبات هذه السنن فقال: ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ [فاطر: ٤٣]، فلا يحول الله سنته بأن يحسن للكافرين ويسيء للمؤمنين، فالله جل جلاله خلق الدنيا دار عبور ومجاز للآخرة، وخلق في الآخرة جنة وناراً، فجعل الجنة للموحدين وجعل النار للكافرين المشركين.


الصفحة التالية
Icon