تفسير قوله تعالى: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)
قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾ [فاطر: ٤٤].
يوجه الله هؤلاء الجاحدين المعاندين إلى الضرب في الأرض والسير فيها بالتنقل بين البراري والجبال، بين الأقاليم والقارات لينظروا إلى آثار الله في الأرض، من الإحسان للمحسنين، ومن العقوبة للمسيئين الكافرين، ولهذا فإن هذه الحفريات التي تكون بحثاً عن الآثار القديمة تزيد المؤمن إيماناً ويقيناً وتعلقاً بكتاب ربه وبطاعة نبيه؛ لأن كل ما قال ربنا في كتابه وبينه نبينا ﷺ في حكمته وسنته موجود ظاهر يراه من ضرب في الأرض رأي العين، منذ قريب جاء أحد من بعض أقطار أوروبا ممن يمت إلي بصلة القربى فأخبر أنه وجد هناك ما أخبر الله به من حجارة، كانوا أناسي فمسخوا، حين جاءتهم الصرعة فظلوا على حالهم فبعضهم كان منحنياً، وبعضهم كان ممتداً، وبعضهم كان يستقي، وبعضهم كان يخدم، وبعضهم يحاول الركوب، وبعضهم كان يجري، فجاءتهم الصعقة فبقي كل واحد منهم على تلك الحالة، ومع الأيام ارتطمت عليهم جبال بزلزال من الأرض فجمدوا وأصبحوا حجارة، فلما نبشت الآثار عنهم وجدوا أنهم قد تجمدوا فأصبحوا حجارة فنقلوهم إلى متاحفهم، وقد أخبرنا الله تعالى عن قوم ثمود وقوم صالح وما حل بهم، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يسرع المشي عندما يمر في هذه الأرض، كما حدث في غزوة تبوك وقد مر جيشه على أرض أولئك وسقوا من هذه المياه فبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام فوجدهم قد خبزوا به، فأمرهم أن يرموا ذلك الخبز أو يطرحوه للدواب وقال: (من مر منكم على مثل هذه الأرض -أرض الهالكين أرض المشركين أرض المغضوب عليهم- فليتباكى، وليفر حتى لا يصيبه ما أصابهم).
وكان من الله التنبيه على الاعتبار بحال أولئك فقال: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [فاطر: ٤٤]، أي: أولم يرحلوا، أولم يسيحوا، والاستفهام هنا استفهام تحريض، أي: فليسيحوا وليضربوا في الأرض لينظروا رأي العين آثار من مضى قبلهم، وآثار من هلك قبلهم، مع أن أولئك كانوا أشد قوة من العرب، ومن عجم اليوم من سكان الأرض على كثرة دعواهم في أنهم أكثر سلطاناً، وأكثر حضارة وأكثر قوة، إلا أن ما يقولونه ما هو إلا كذب وإضلال واغترار بأنفسهم، ومن مر منا فرأى أهرامات مصر وموميات مصر، ورأى خرائب أرض بابل في العراق، لا شك أن الإنسان يقف مذهولاً أمام هذه الحجارة العملاقة التي بنيت بها الأهرامات، إذ يصل حجم الواحدة منها ما يمكن به أن يملأ غرفتين أو ثلاث، وكيف أنها قطعت من جبال الطور، فتحدث عنده التساؤلات: كيف اقتطعت على شكل واحد؟ ثم كيف جرت؟ وكيف حملت إلى موضع البناء؟ ما هي هذه القوة التي صنعت ذلك؟ لابد من وجود آلات لفعل ذلك، ولابد من أدوات لكنها إلى الآن ليست عند أحد.
ومن رأى موميات فرعون والفراعنة الذين معه، والأموات قبله وبعده وقد مضى عليهم آلاف السنين وهم بين العواصف والأمطار والشموس، وبين كر الليل والنهار، ولا تزال كما هي جلدة على عظم، لم تصبح رماداً، ولم تؤثر فيها عواصف ولا أمطار ولا شموس، من يرى هذه الحال لا شك أنه سيتساءل: ما هي المواد التي كانوا يصنعونها لتساعد في بقائهم هذه المدة من قرون، وكان زعماء الكفر في الفاتيكان يحتفظون بباواتهم في نواويس وصناديق من زجاج، وقد رأيت ذلك كما رأيت الأهرام وأبنية بابل، رأيت هذه النواويس في الفاتيكان تجد هذا البابا الضال ممدداً بلباسه وبشكله وبشعراته في لحيته، يقفل عليه في قطعة واحدة من الزجاج ويبقى على حاله قرنان أو ثلاثة أو أكثر، ولكن أحياناً ينكسر هذا الزجاج وإذا بهذه الجثة تصبح رماداً بمجرد ما يدخلها الهواء، فهم عاجزون عن أن يفعلوا ما فعله الأقدمون في مصر وأرض بابل.
حكم بابل هارون الرشيد فساح مرة في ضواحي بغداد فوقف على هذه الخرائب فقال للبرامكة من وزرائه: أريد قصراً على هذه الخرائب، فقال له جعفر ويحيى: يا أمير المؤمنين! لو حاولنا هدم المتبقي من هذه الخرائب لما استطعنا ذلك في سنين، فضحك منه هارون وقال: خربها وسوها بالأرض وابن قصراً فيها، فامتثل، وبقي سنتين أو ثلاث وهو يضرب في هذه الخرائب ما استطاع أن يزيل منها ويخرب أكثر من ذراع أو ذراعين، فيا ترى ما هي هذه المواد التي أدخلوها في هذه الرمال وهذه الأتربة وهذه الحجارة حتى أصبح القصر قطعة واحدة، فلو كان حجارة لانفجر، بعد ذلك يئس هارون واعترف بأنه لا يستطيع، وحاولوا بكل قريب وبعيد وبكل أنواع المواد أن يصنعوا مثل ذلك فعجزوا وعجز من جاء بعدهم إلى عصرنا، فذلك قول الله: ﴿وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ [فاطر: ٤٤]، فإنهم ليسوا أكثر قوة من العرب فقط، بل ومن العجم ومن أوربا وأمريكا وغيرها من البلاد أيضاً.
فالله حين أمرنا بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ [فاطر: ٤٤]، ذهبنا ونظرنا ونظر معاصرونا، ومن قبلنا فرجع الكل ذاهلاً متعجباً عاجزاً عن أن يصنع مثل ذلك، يقول الله لهؤلاء الكفرة المعاصرين للنبي عليه الصلاة والسلام ولمن سيأتي بعدهم: انظروا إلى أولئك الأقوياء الذين نحتوا الجبال قصوراً، وكان قد منح الله الإنسان منهم طولاً وعرضاً، فآدم كما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام (في طول أطول نخلة سحول)، عرضه أمتار وطوله أمتار، وكانوا يعيشون الألف عام أو أكثر أو أقل، وتأكيد ذلك من كتاب الله عن نوح إذ لبث في قومه كما أخبر الله عنه: ﴿أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾ [العنكبوت: ١٤]، ذلك مع القوة في الأيدي والصحة، وكانوا يتزوجون المئات، وقصة سليمان التي في الصحاح: أنه طاف ليلة على مائة جارية وقال: لآتين منهن بمائة فارس، ولم يقل إن شاء الله، فلم تأته المائة كلها، ولم تأت بأكثر من مثل وليد، فكان ذلك من الله تأديباً لسليمان حيث عامله بنقيض القصد، وقال لنبينا ولنا ضمناً: ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف: ٢٣ - ٢٤].
فالإنسان في كل شيء يريد أن يفعله بعد الزمن الذي هو فيه لا بد أن يقول: إن شاء الله: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان: ٣٠].
فالمشيئة بيده والخلق بيده، والأمر بيده، ولسنا إلا آلة بيده في الرقعة الإلهية يرفعنا كما شاء ويضعنا كما شاء.
والله حين يحدثنا بأخبار من مضى أو حين يوجهنا إلى النظر في سيرهم كقوله: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ [فاطر: ٤٤].
يبين كيف صنع بهم مع ما كانوا عليه، وأنه أهلكهم وأغرقهم وزلزل بهم الأرض ورجمهم بحجارة من السماء فذهبوا كأمس الدابر وكأن لم يكونوا، أيعجزه هؤلاء الضعاف الذين لا يكادون يستطيعون دفع ضر عن أنفسهم، ولا جلب خير لهم إلا إذا أراد الله ذلك، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾ [فاطر: ٤٤].
فلا يعجز الله شيء، كيف وهو القادر على كل شيء، الذي قدر وخلق هذه السماوات العلى، وقدر فخلق هذه الأراضين السفلى، وخلق هذا الإنسان العجيب الغريب الذي ينظر بعينين، ويسمع بأذنين، ويبطش بيدين ويمشي على رجلين، ويفكر بذهن وقلب، من خلقه؟ من نفخ فيه من روحه؟ من قدر له قوته؟ من أحياه ومن ثم يميته؟ لا جواب عن كل ذلك إلا الله، فالله وحده القادر على كل شيء، ولا يعجزه شيء سبحانه، قال عن نفسه: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ [فاطر: ٤٤].
إذا دخلت (من) على النكرة دلت على العموم، أي: ليس شيء من خلق الله في السماوات السبع وما فوقها وما تحتها، وفي الأرضين السبع وما عليها وما تحتها يعجز الله، فهو القادر على كل شيء، وكما أوجد هذا الكون بما فيه فإنه قادر على إفنائه والقضاء عليه، ﴿إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾ [فاطر: ٤٤].
كان عليماً بخلقه وما يصلحهم، وما يضرهم وما ينفعهم، فهو يعلم ما هو صلاحهم في مستقبل أيامهم، وما هو ضررهم في الحال وفي الاستقبال، غفور لمن استغفره وآمن به، وقال: ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ [الشعراء: ٨٢].


الصفحة التالية
Icon