تفسير قوله تعالى: (لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم)
قال تعالى: ﴿لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ [يس: ٦].
أي: أنزلنا إليك هذا القرآن الكريم، وهذه الرسالة الخاتمة لتكون منذراً، ولتكون رسولاً داعياً إلى الله قوماً لم يسبق أن أتاهم نذير قبلك، فلأول مرة يرسل إليهم، فأنت الرسول الخاتم إلى هؤلاء، والإشارة إلى العرب، فالعرب لم يرسل لهم أحد قبل رسول الله عليه الصلاة والسلام، ونبينا ليس رسولاً للعرب فقط، ولكن الرسالة في بداية الدعوة كانت للعرب ثم عمت، فقد قال الله: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: ٢١٤].
أمر بأن ينذر عشيرته، ولذلك عندما أرسل إليهم وقف ﷺ على الصفا والمروة، وقال: (يا بني عبد مناف! يا بني عبد المطلب! يا آل فلان! يا آل فلان! يا فاطمة بنت محمد!)، فتجمع عليه العرب من كل جانب، وتجمع عليه أكابر قريش: أبو جهل وأبو لهب وعقبة بن أبي معيط وأمثالهم فقال لهم: (لو حدثتكم أن عدواً وراء هذه الجبال يقصدكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: إني نذير من الله إليكم بين يدي عذاب شديد، فالتفت إليه عمه أبو لهب وقال: تباً لك ألهذا جمعتنا؟ فنزل قوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد: ١] السورة).
فأخزى الله أبا لهب، فلقد كان مخزياً لكفره ومات على كفره، وأصبحت هذه الآيات في هذه السورة الكريمة وحياً يتلى، فمن تلاها فله بكل حرف من حروفها عشر حسنات، فقوله: ((تَبَّتْ)) مثلاً له فيها أربعون حسنة، في التاء عشر حسنات وفي الباء المشددة عشرون حسنة.
وفي التاء عشر حسنات فمن تلاها على أنه يتلو كتاب الله من هذه السورة، فله في تلاوتها أربعون حسنة، وهكذا أرسل ﷺ إلى عشيرته أولاً، ثم قال الله له: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ١٥٨]، فقد أرسل عليه الصلاة والسلام بعد ذلك إلى جميع الخلق مشارق الأرض ومغاربها، إلى العجم والعرب، إلى من عاصره ومن سيأتي بعده، فكان الرسول الخاتم، إذ لا نبي بعده ولا رسول، ولكنه بالنسبة للعرب كان أول رسول وآخر رسول.
قال تعالى: ((لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ)) أرسلناك بهذا الكتاب الحكيم، وبهذا الصراط المستقيم، وبهذه الرسالة الخالدة، إلى قوم لم يسبق أن أرسل إليهم رسول قبلك، وآباؤهم لم يرسل إليهم من قبل، فكانوا على فترة من الرسل؛ ولذلك تمنوا أن يكون لهم رسول كما أن لغيرهم رسولاً، وأقسموا بالله إن جاءهم ليكونن أهدى من إحدى الأمم، ولكنه جاءهم فكفر بعضهم، وأصر بعضهم على الجحود، فكان ما كان من غلبته والقضاء عليهم إلى أن أصبحت جزيرة العرب كلها مسلمة، وحرم الله على غير المسلمين أن يدخلوها، وكان يوصي عليه الصلاة والسلام في آخر أيامه وهو على فراش الموت فيقول: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب)، إذ لا يصلح دينان في أرض واحدة، ولا قبلتان على أرض واحدة.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لقد يئس الشيطان أن يعبد في هذه الأرض بعد اليوم، ولكنه رضي بالتحريش)، أي: يحرش بين الناس وينشر بدعاً وفتناً وأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان، أما أن يرتد العرب ويكفروا فهذا لن يكون بعد إسلامهم.
وما كان بعد موت رسول الله ﷺ وفي خلافة أبي بكر لا يزال امتداداً للفكر القديم في الجاهلية الأولى، فلما ردعهم أبو بكر فمات من مات وشرد من شرد، وعاد للإسلام من عاد، منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا وجزيرة العرب كلها موحدة ومسلمة، وكلها تشهد لله بالوحدانية ولمحمد ﷺ بالرسالة الخاتمة، وقد قال الله عن هؤلاء: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥]، وبهذه الآية نعلم أن كل ما ورد منسوباً لرسول الله عليه الصلاة والسلام إما أن تكون أحاديث لا أصل لها ولا سند، أو أحاديث وَهِمَ أحد رواتها، فروى وهماً لم ينزل الله به من سلطان، كالحديث الذي يروونه، وهو في مسند أحمد بأن امرأ القيس يأتي يوم القيامة يقدم الشعراء إلى النار ويجر قصبه، أي: يجر أمعاءه، فهذا الحديث في مسند أحمد لم يصح سنداً ولا متناً، فالسند منقطع وفيه مجاهيل، وما كان على ذلك فإنه لا يمكن أن يعارض به كتاب الله.
فالله يقول: ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا))، والعرب لم يرسل إليهم رسول قبل محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا ما تؤكده هذه الآية الكريمة من سورة يس: ((لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ)) أي: كانوا غافلين عن الحق بعداء عنه، كانوا كما وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام: (إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا).
فلم يكن لهم كتاب، ولم يكونوا يعرفون الحساب، وإنما كانت عندهم العقلية السديدة، واللسان البليغ شعراً وخطابةً ومحاورة، فكانوا ذوي رأي سديد، وكانوا في منتهى الشجاعة والغيرة، وهذا هو السر في أن العرب لم تجمعهم دولة ولا حاكم موحد، وإنما اجتمعوا على النبي عليه الصلاة والسلام، فكان عظيمهم وزعيمهم ونبيهم ورسولهم، وكان قائد دولتهم وكبير جيشهم وقاضي قضاتهم، والمولي والعازل للحاكم وغير الحاكم من رجال الدولة ورجال الأمة.
ولهذا فإن الإسلام عقيدةً ونظاماً ودولةً جاء بالإيمان بالله وكتبه ورسله وبيوم البعث والنشور، فهو عقيدة من خرج عنها ليس بمؤمن، ومن قال: إن الإسلام ليس دولة وإنما هو في القلب كدين النصارى؛ أو قال: الدين لله والوطن للجميع، ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، تلك شعارات كافرة يهودية ضالة، فالكل لله سواء الوطن والمواطن والدين، قيصر ورعاياه، الدول وشعوبها.
ومن هنا كان الدين هو الإسلام، قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٩].
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٨٥].
فالعرب كانوا غافلين عن الديانة والمعرفة، ومن هنا وصفوا بالجهالة، فقيل عنهم: أهل الجاهلية، ووصفوا بالضلالة، ولكن جاء الإسلام فزالت الجهالة بتعلم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وزالت الضلالة بهداية الهادي البشير النذير محمد سيد البشر صلى الله عليه وسلم، فأصبح العرب بعد ذلك سادة الناس وأئمتهم لمدة ألف عام وهم مستمسكون بالإسلام، فعندما بدا لهم أن يتراجعوا عنه، وارتد منهم من ارتد، وعيروا الإسلام ونبيه وخلفاءه الراشدين بأسماء قذرة ومذاهب باطلة، عاقب الله المسلمين وسلط عليهم أنواعاً من الاستعمار من قبل النصارى واليهود إخوان القردة والخنازير لعنهم الله، ولن يعود الله عليهم بعزه ما لم يعودوا لدينه، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد: ١١].
قوله تعالى: ((لِتُنذِرَ قَوْمًا)) أي: ليكون نذيراً إلى قوم لم ينذروا قبله، وكانت هذه البداية لنبينا صلى الله عليه وسلم، وكما قال الله له: ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ﴾ [الشورى: ٥٢]، وقال: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ [الضحى: ٧] أي: وجدك لا تعرف الطريق ولا تعرف الكتاب، ولكن ستره الله سبحانه.
فقد رأى ﷺ في قومه عبادة الأوثان والأصنام ولم تطمئن نفسه لذلك، ولم يستمع لذلك، ففي أخريات أيامه ألهم بأن يذهب إلى غار حراء ويعتزل الناس ويتحنث، فأخذ يفكر: من خلقني؟ من أوجدني؟ من أوجد هذه الجبال؟ أهذه الأصنام حق؟ وهكذا هيأ نفسه لقبول الرسالة، ولقبول الحمل الثقيل، لقبول نزول جبريل، ففجأه جبريل وهو في الغار: (وقال له: ﴿اقْرَأْ﴾ [العلق: ١]، فكررها وقال: ما أنا بقارئ، فضمه إليه ضمة كادت تدخل ضلوعه بعضها في بعض، وهكذا ثلاثاً).
ومن هنا يقول ابن تيمية وما أروع هذه الكلمة وما أوقعها على الحقيقة والصدق: كانت العرب أرضاً خصبة تفتقد الزرع والزارع، فجاء الزرع وكان الإسلام، وجاء الزارع وكان محمداً عليه الصلاة والسلام، وإذا بهذه الأرض الخصبة أعطتهم خيراتها ومعاركها وسياستها، وأدَّبت من كفر بالإسلام خلال خمسين سنة من الصين شرقاً إلى جبال برنيه في عمق أوروبا وما بينهما.
ودعك من محمد صلى الله عليه وسلم، فإنك ستقول: هو مؤيد بالوحي وبالرسالة، ولكن أبا بكر وعمر والخلفاء الراشدين وأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما أنار الله بصائرهم بالإسلام أعطوا الكون والعالم ما لم يعطه أحد قبلهم، فقد كان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام أفضل الخلق بعد النبي عليه الصلاة والسلام والأنبياء، وصدق قول ابن تيمية: كانت العرب أرضاً خصبة، فقدت الزارع فكان محمداً عليه الصلاة والسلام، وفقدت الزرع فكان الإسلام، وهكذا عندما جاء الزرع والزارع أعطت هذه الأرض من خيراتها وثمراتها وعلومها وقياداتها، فأصبح المسلمون هم القادة الموجهون والحاكمون، ماداموا مستمسكين بهذا الدين الكريم لمدة ألف عام، حتى إذا غيروا وبدلوا غير الله عليهم خيره وعزه.


الصفحة التالية
Icon