تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية)
قال تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ﴾ [يس: ١٣ - ١٦].
يقول الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: اضرب لقومك مثلاً، واذكر لهم قصة ما أشبه وقائعها بهم، وما أشبه كفرها بكفرهم، وما أشبه تحديها لأنبيائها بتحدي عشيرتك لك.
قوله: ((أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ))، بدل من (مَثَلاً)، أي: اضرب لهم مثلاً أصحاب القرية ((إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ))، وهي قرية من القرى، أرسل الله لها من الرسل اثنين أولاً فكذبوهما، فقواهما الله بنبي ثالث، فأصبحوا ثلاثة أنبياء إلى قرية واحدة، ولم تفد رسالتهم الثلاثية شيئاً.
قال تعالى: ((فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ))، أي: قال المرسلون الثلاثة لأهل هذه القرية: ((إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ))، أي: أرسلنا الله لننذركم وندعوكم إلى عبادته وترك عبادة الأصنام.
قال أهل القرية: ((مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)) وهذه دندنة عرفت من الشعوب الماضية كلها ولا تزال.
فهم يتصورون أن النبي لا يكون إلا ملكاً، أو يكون خلقاً غير خلق البشر، كأن يكون إنساناً له رأسان، وله أربع أعين وعشرة أرجل، على شكل غير الشكل، ونحن نعرف بدواً أعراباً يسمعون بالملك، ولم يقدر أن رأوه إلا على كبر، فعندما رأوه صاحوا: أهذا الملك؟ لنا يد كيده، وعينان كعينيه، ويضحك كما نضحك، ويبتسم كما نبتسم، فقالوا: ليس هذا بملك؛ إذ إن تصورهم للملك أن يكون جثة بين السماء والأرض، إن كان للإنسان عينان فله عشر وهكذا، فهكذا قال هؤلاء: ((مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)) أي: لستم إلا بشراً مثلنا، لستم أنبياء ولا مرسلين.
وقالوا: ((وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ))، أي: ربنا لم ينزل شيئاً: ((إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ)).
فأجابهم الرسل: ((قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ))، يؤكدون بـ (إن) المشددة واللام الموطئة للقسم، أي: أرسلنا لكم خاصة لا لغيركم، والمعنى: بلى نحن مرسلون إليكم، أرسلنا الله لبشارتكم إن آمنتم، وبنذارتكم إن بقيتم على الكفر.
يكاد يجمع المفسرون أن القرية هي أنطاكية الموجودة الآن في أرض سوريا، ثم اختلفوا بعد ذلك، هل هؤلاء المرسلون رسل من قبل الله مباشرة أم هم رسل من قبل عيسى؟ وإنما قالوا ذلك بناءً على أن عيسى ما أرسل رسله وحوارييه إلا بأمر من الله، فمن قال: أنطاكية، وقال: هم رسل ثلاثة، قالوا: اسم الأول صادق، والثاني صدوق والثالث المعزز به اسمه شلوم، ومن قال هم رسل من عيسى قالوا: هم شمعون، ويوحنا، وأتوا بأسماء أخرى.
فهؤلاء الرسل جاءوا للقرية، جاء الرسولان الأولان وتخللا الشوارع والأزقة واختلطا بالناس وكان لها حاكم وثني وكلهم يعبدون الأوثان والأصنام، فذهب هذان النبيان الرسولان يدعوان إلى عبادة الله، والإيمان به، فأخذوهما ورموهما في السجن بعد ضربهما وإيذائهما فعززوا بثالث، فقبضوا على الثالث وفعلوا به مثلما فعلوا بصاحبيه؛ ضربوه ورموه في السجن.
ولكن ابن كثير يرجح أن القرية ليست أنطاكية المعروفة، فقد قال نقلاً عن كتب تاريخية: إن أنطاكية أسلمت أيام عيسى جميعاً، ولم يتخلف منهم أحد، وهذه القرية التي يذكرها الله كانت وثنية كافرة، ويخبر الله عنها: أنه دمرها في صيحة واحدة وأنهاها؛ لأنها قتلت هؤلاء الرسل الثلاثة، وقتلت من جاء يؤمن بهم.
والذين قالوا إنهم رسل ثلاثة من قبل الله مباشرة أو من قبل عيسى مراجعهم في الأخبار مراجع إسرائيلية، منقولة عن كعب الأحبار، وعن وهب بن منبه وابن عباس، فـ ابن عباس عرف بالسماع لـ كعب، وبالرواية عنه، والمحدثون يقولون: إذا عرف عن أحد من الصحابة أنه يسمع لهؤلاء وينقل من قولهم لا يعتبر قوله مما يقول عنه المحدثون: هذا القول لا مجال فيه للرأي، فيكون مرفوعاً، فاستثنوا من هذا من يروي عن الإسرائيليين، وكعب كان يهودياً وقالوا: إنه أسلم، وكذلك وهب بن منبه، والرواية في مراجعها جميعاً ترجع لهذين، وكعب كذبه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وكذبته عائشة رضي الله عنها، وكذبه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وكذبه معاوية بن أبي سفيان، وكذبه عمر، وقال عمر عنه: إنك ضاهيت اليهودية، وقال عنه ابن مسعود: إنه عاد لليهودية، وكذبه.
وما أسلم كعب إلا وهو ابن أربعين سنة بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام في سنته، وجاء أيام عمر فقال له العباس: أنت قد كمل عقلك وأنت رجل كهل ولست شاباً، وتسكن في اليمن قريباً منا، وقد جاءت وفود كثيرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فلماذا لم تأت والنبي حي يسمع منك وتروي عنه؟ وهكذا شكك فيه.
فعلى هذا فإن مرجع جميع هذه الروايات إسرائيلية، إذ لا حديث يثبتها ولا آية تؤكدها، وعلى ذلك فإن هذا القول نعتبره قولاً لا دليل عليه، فالآية تدل على أنهم مرسلون من الله لا بواسطة عيسى ولا بغيره، أما أسماؤهم فقد قال هؤلاء أيضاً: لم يصح عندنا في ذلك شيء عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
والله عندما يذكر قصة في القرآن لا يذكرها للحكاية والرواية، ولكن يذكرها لأخذ العبرة والحكمة منها، ولذلك فإن الأسماء لا شأن لها في القصة، وإنما يكفي أن يعلم أنه كان قبل نبي الله عليه الصلاة والسلام، وعلى ذلك فالقصة نرويها كما قصها القرآن، وأنها قرية قد تكون أنطاكية وغير أنطاكية، وقال ابن كثير: إن أنطاكية جاءها عيسى وأسلمت كلها، والآية لم تخبر أن هذا كان قبل عيسى أو بعده، بل إن عيسى لم يأت بعده نبي، إلا نبينا عليه الصلاة والسلام، بعد رفعه للسماء منذ ٦٦٩ عاماً، فهؤلاء الرسل كانوا قبل عيسى، فلم يرسل عيسى شيئاً، فهم مرسلون من عند الله، والكلام كله عن الله، وهكذا نؤكد أنها قرية ولا نعلم اسمها، إذ لم يسمها رسول الله، ولم يسمها من أثبت ذلك عن الصحابة، والجمهور لم يرووا الإسرائيليات ولم يعتدوا بها.