تفسير قوله تعالى: (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون)
قال تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [يس: ٤١].
يقول جل جلاله: ومن آيات الله وقدرته: ((أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ)) وقرئ: ((ذُرِّيَّاتِهِمْ)) وهي قراءة نافع وورش.
قوله: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [يس: ٤١].
الفلك: جمع سفينة، ولا مفرد له من لفظه، فإذا أردنا المفرد نقول: سفينة، وإذا أردنا الجمع نقول: فلك وسفن.
والذرية تُطلق على الآباء والأجداد وتُطلق على الأبناء والأحفاد، وكل منا هو ذرية لأبيه، فأنا ذرية لأبي كما أن ولدي ذرية لي، وهكذا دواليك، والذرية من الذرأ أي: ذرأ الله الآباء والأجداد من آبائهم، وذرأ أولادهم وأحفادهم وأسباطهم منهم، ومعنى الآية: وآية لهم أنا حملنا آباءهم وأجدادهم الذين ذرأهم الله منهم في الفلك المشحون، وأل للعهد، أي: المعهود، وهو الفلك الذي حمل فيه نوح من آمن به وحمل نفسه، فالله جل جلاله يخبر أنه عندما عاقب قوم نوح بأن أغرقهم وأفاض عليهم الدنيا حتى غرقوا، وأنقذ نوحاً ومن آمن معه، وكما قال ربنا: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: ٤٠] فكان من آمن به قلة، قيل: اثنا عشر، وأكثر ما قيل: سبعون.
فنحن قد حُملنا في أصلاب آبائنا وأجدادنا عندما ركبوا مع نوح في السفينة، وعندما أغرق الله قومه الذين طغوا.
ومع طول المدة التي دعا فيها نوح قومه لم يستجيبوا، حيث لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم، إلى أن ضجر فقال: ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح: ٢٦ - ٢٧] فاستجاب الله دعاءه، وصعد السفينة، ولم يصعدها أحد أولاده ممن لم يؤمن به، وغرق فيمن غرق، وهلك فيمن هلك، فنحن أبناء نوح ومن حُمل معه في هذه السفينة، فمن آيات الله أننا لم نفن قبل أن نوجد، ولو فني آباؤنا وغرقوا، ولم يحمل نوح من حُمل معه لما وجدنا نحن، لكن الله حملنا في سفينة نوح، وكنا نسماً وذراً في أصلاب الآباء والأجداد إلى أن تناقل ذلك وتسلسل إلى أبينا المباشر وأمنا.
وهكذا الله يلفت أنظارنا بهذا المعنى الدقيق، ويقول: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [يس: ٤١].
(في الفلك) أي: في السفينة.
(المشحون) أي: المليئة العامرة بمن عمرها نوح، حيث عمرها بمن آمن معه، ومن كل خلق زوجين من الدواب والمواشي، ومن الطير والهوام، فكانت مشحونة مليئة عامرة، فنحن من ذرية وسلالة أولئك.


الصفحة التالية
Icon