تفسير قوله تعالى: (ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً)
قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾ [يس: ٦٢].
أي: قد أضل الشيطان الذي عبدتموه منكم خلقاً كثيراً.
وقرئ: (جِبِلًّا) و (جُبُلًّا) في القراءات السبع.
وقرئ: (جُبْلا).
وفيها روايات.
والجبل: الخلق الكثير، كيف وقد أكد ذلك بالكثير، والمقصود أنه أضل خلقاً كثيراً.
فأضلهم الشيطان عن الصراط السوي، وعن الإسلام البين الواضح، وعن طاعة الله وأوامره في كتابه، وعن طاعة رسوله في سنته وحكمته، وأضل الكثير على مدى الدهر، منذ آدم إلى نبينا وإلى عصرنا وسيبقى كذلك، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ١١٦]، أي: أكثر الأمم وأكثر الناس قد ضلوا الطريق، وعبدوا الشيطان، وتركوا عبادة الله.
وقوله: (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ).
هذا استفهام توبيخي تقريعي، أي: ألم تكن لكم عقول؟ كيف تطيعون من عاداكم، ومن أخرج أبويكم من الجنة، ومن ألزم نفسه أن يفرغ حياته ووجوده وسلالته لإضلالكم وإفسادكم؟! هو يريد أن يخرجكم من الجنة إلى النار، إلى أن تصبحوا معه في النار خالدين أبداً، أليس لكم عقول؟ لقد أنذركم الله وأنبياؤه من الشيطان، وأنه عدوكم، فلا تحققوا ظنه فيكم عندما قال: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ﴾ [النساء: ١١٩]، وقد ألزم نفسه بما ألزم، وطلب من ربه أن ينظره وأن يؤجل موته إلى يوم الدين، وقد استجاب الله له؛ ليكون ذلك فتنة للناس، وليعلم الله المؤمن من الكافر، والصادق من الكاذب، وهو ابتلاء واختبار.
والمعنى: أليس لكم عقول تميزون بها بين الصديق والعدو، بين المحب والكاره؟ فهذا نبيكم دعاكم إلى الله، وهو الحريص على إيمانكم، وهو الذي قال الله له: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٣] ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: ٨].
فالنبي عليه الصلاة والسلام تألم لنا، وتوجع من أجل أتباعه ممن لم يؤمن منهم، أو عصى ممن آمن، وما هذا إلا لأنه رحمة ومحب، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧].
لقد تركتم الحبيب صلى الله عليه وسلم، واتبعتم الشيطان الذي أضلكم وأركسكم وأوقعكم فيما أوقعكم فيه.


الصفحة التالية
Icon